تمرّ التربية والتعليم في لبنان اليوم بأزمة عميقة لا تقتصر على نقص الموارد أو الظروف الاقتصادية فحسب، بل تمسّ في جوهرها المعنى الحقيقي لما ينبغي أن تكون عليه المدرسة. فبدل أن تكون فضاءً للازدهار والانفتاح والاكتشاف والإبداع، تحوّلت في نظر كثير من الأطفال إلى مكان يمتلئ بالضغط والتكدّس والرتابة. يغرَق التلاميذ في بحرٍ من الواجبات، ويُقيَّدون ببرامج جامدة لا تترك مجالاً لحرية الفكر أو التعبير. وبدل من أن تشتعل فيهم الرغبة في التعلّم، فُرض عليهم نموذج يُرهقهم ويُقلقهم ويؤثر على صحتهم النفسية منذ سنٍ مبكرة.
ولا يزال النظام التعليمي اللبناني قائماً إلى حدٍّ بعيد على أساليب تقليدية متجاوزة، يُختزل فيها التعلّم بالحفظ والترديد والتكرار. تُدرَّس موادّ كالتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية على شكل معلومات تُحفظ مؤقتاً، فيتعلّمها التلاميذ من جهة، ثم ما يلبثون أن ينسوها من جهة أخرى. فبدلاً من أن تُنمَّى لديهم قدرات التحليل والتفكير والنظر النقدي، يعتادون على إعادة ما لُقِّنوا به من دون مساءلته أو فهمه فهمًا عميقًا. والحقيقة أن التعلّم ينبغي أن يكون رحلة نابضة بالحياة، لا تمريناً آلياً أجوف. ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة النظر في طرائق تدريس هذه المواد، عبر اعتماد المشاريع التفاعلية والأنشطة التطبيقية، وتشجيع العروض الحرة التي يعبّر فيها التلاميذ عن فهمهم للدروس بأسلوبهم الخاص، فبهذه الطريقة وحدها تترسّخ المعارف في الذهن وتكتسب معناها الحقيقي.
وتتجلّى مشكلة أخرى لا تقل خطورة في اعتماد مبدأ التوحيد القسري بين التلاميذ، وكأن نموذجاً واحداً يصلح للجميع. فهذا النظام لا يعترف بالقدرات الفردية ولا يقدّر التنوّع في المواهب، وكأن التفوّق محصور فقط في الرياضيات والعلوم. غير أن من بين التلاميذ من يبرعون في الرسم، أو الرقص، أو الموسيقى، أو المسرح، أو الرياضة، أو التكنولوجيا، أو في مهارات إنسانية سامية كقدرة التواصل والتعاطف وفهم الآخرين. وكانت التربية الحديثة أول من كشف هذه الفروق فرفعت من شأنها وأبرزتها. وبدلاً من الحكم على الطفل بالفشل لأنه «ضعيف» في مادة ما، بحثت عن موطن تميّزه، ومنحته الوسائل لينمو في المجال الذي يبرع فيه.
أما العبء الدراسي المفرط، فليس إلا خنقاً لطفولة الأطفال. فالواجبات التي لا تنتهي، والدروس المتراكمة، والجداول المكتظة، كلّها ترهق نفوسهم وتستنزف طاقاتهم. يفقد الكثير منهم متعة التعلّم وفضول الاستكشاف، تلك الفطرة التي يفترض أن تكون أساس التربية. فلا ينبغي للمدرسة أن تكون مرادفاً للقلق أو الحزن، بل واحةً للفرح والأمان والإلهام، ومكاناً يتنفّس فيه الطفل وينمو في توازن وانسجام.
ومع ذلك، فإن في العالم نماذج مُلهِمة يمكن الاقتداء بها. ففي فنلندا مثلاً، جرى تقليص الواجبات المدرسية إلى حدٍّ كبير، وأُعطي الفن والإبداع حيّزاً واسعاً، واعتمدت أيام دراسية أقصر وأكثر فاعلية. وفي كندا، يُشجَّع التلاميذ على اختيار المواد التي تنسجم مع قدراتهم وميولهم، كالفنون والتصوير والرياضة، والروبوتات، والموسيقى، والمسرح. وهناك دول أخرى جعلت من المشاريع والعمل الجماعي والاستقلالية والتفكير النقدي ركائز أساسية في نظامها التعليمي. فلماذا لا يستطيع لبنان أن يستلهم هذه التجارب ليبني نظاماً أكثر إنسانية وفاعلية؟ لا شيء يمنع من إدخال المزيد من حصص الفنون، وتنويع الأنشطة الرياضية، وتأسيس النوادي الثقافية والعلمية، وتبني المشاريع العملية، واعتماد التقييم القائم على التطوّر الشخصي، واستبدال الحفظ الأعمى بالتعلّم القائم على الفهم والاستيعاب.
إن إعادة ابتكار النظام التعليمي ليست ترفاً، بل ضرورة ملحّة. فأبناء اليوم يستحقون مدرسة تحتضنهم بمحبة، وتغذّي شغفهم، وتحترم اختلافاتهم، وتحمي صحتهم النفسية، وتزرع في نفوسهم الرغبة في الحياة والتطوّر. إنهم يستحقون تربيةً تُشعل النور في داخلهم بدلاً من أن تطفئه. فإذا ما قرّر لبنان أخيراً أن يُحدّث نظامه التربوي ويجعله أكثر إنسانية وانفتاحاً، فإنّه سيمنح الأجيال القادمة ليس علماً أفضل وحسب، بل طفولةً أكثر جمالًا وصحة وسعادة.