
من هنا، مرّ الحلمُ المنسيّ، وشقّ في وجنتيَّ أروقةً لم تلتئم قطّ... قالوا: "كُلّلتُ بالورد، يا لفرحتها!" ولكن، أغابَ عنهم أنّ الورد يذبلُ؟
يا كفيفةَ العينينِ، يا نفسي، ما نفع الأجنحة الحرّة والعُكّاز بوصلةُ دروبك؟ أيّتها القبطانُ المقدام، تطمحين للإبحار في غياهب الأيّام، وما إن يسقط الحصى الصّغير على سطحكِ حتّى تسكري؟! الجبروتُ، يا حبيبتي، لمن يحمل الصّولجان المذهّب، وأمّا عصاكِ السّحرّيّة فلا جدوى منها إلّا في الحكايات! نعم، بهذه القسوة والانهزام، أقف بكلّ شجاعةٍ أمام المرآة... وبهذا التّمرّد، تصطادني شظايَ قلبي من وسط السّراب، وكأنّ القلبَ بموتي يحيا.
أين أنا الآن، يا نفسي؟ على الشّاطئ! وأمامي سفينةٌ ضخمة راسية لا تتحرّك. عملاقةٌ هي، تكاد تمزّق الأفق وتخترق الجغرافيا بعرضها وثقلها. صوتٌ ما من صميم السّموات يهدر، يريدني أن أفلتَ السّفينة من المرساة... أحاول، ولكنّني لا أستطيع! وكيف ذلك، وأنا أوّل المتّكئين عليها، المُحتمين في ظلّها! ولكن، عليها الرّحيل، أليس هذا ما يقوله منطق الأشياء؟ عليها أن تبتعدَ شيئًا فشيئًا، لتصغر تدريجيًّا وتضمحلُّ في ظلمة البحار. عليها أن تنطلق، ولكنّ المشكلة ليست بالسّفينة ولا حجمها؛ المشكلة فيَّ أنا!
وفي صخب هذه المتاهة الفلسفيّة المعقّدة، انكشف السّتار وخلصتُ أنّني أسيرة ماضٍ طواه الزّمان في كتب التّاريخ التّافه، ولا أزال أنا أحضنه كجرحٍ قديمٍ أخاف التئامه أكثر من التهابه... كثيرًا ما أنسى أنّ الاحتماء بالمظلّة يحجبُ الشّمسَ عن القمح، وكثيرًا ما أهجرُ روضتي في الخريف، لأعود إليها في الصّيف مطالبة بجنيٍ لم أزرعه... وها أنا أكتبُ إليكم اليوم بالحبر، كالجالس على كرسيّ الاعتراف، وذلك لأنّ قلمي لا يتلعثم ولا يكذب... أكتبُ إليكم وأوصيكم: إن مررتم يومًا بجانب حلمي، أخبروه أنّني في ضجيج الحياة معتقلة، أرى نورًا؛ ذاك الذي يأتي وسط العاصفة ليعمي البصيرة.