
المقدّمة
يطلّ علينا القدّيس بولس الرسول من عمق التاريخ، لا كصوتٍ من الماضي، بل كحضورٍ حيّ في قلب الكنيسة وعالم اليوم. فليست تعاليمه مجرّد أفكارٍ لاهوتية جامدة، بل نَفَسٌ روحيّ يُعيد تشكيل الإنسان من الداخل، ويدعوه إلى اللقاء بالمسيح الذي قال: «أحبّني وبذل نفسه عنّي» (غلاطية 2:20).
أولًا: الخبرة التبشيرية لبولس في ضوء أعمال الرسل
يظهر بولس كشاهدٍ حيّ على ديناميكية الرسالة المسيحية. فمن لحظة اهتدائه على طريق دمشق (أعمال الرسل 9: 3–19) إلى رحلاته التبشيرية المتعددة، يعرض سفر أعمال الرسل مسارًا تصاعديًا من الاضطهاد إلى الرسالة، ومن العمى الجسدي إلى البصيرة الروحية.
اختبر بولس التبشير في سياقات متنوّعة، من المدن اليونانية الوثنية إلى المجامع اليهودية، فواجه المعارضة والاضطهاد، لكنه حوّل كل اختبار إلى فرصة لتجديد الإيمان. ويختصر قوله في (أعمال الرسل 20:24) رؤيته الرسالية:
"لَكِنِّي لَسْتُ أَحْسِبُ لِشَيْءٍ وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةً عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ."
تُظهر هذه الخبرة مفهومًا رسوليًا عميقًا للالتزام، حيث يصبح التبشير فعل حياةٍ كاملة لا مجرّد واجب كنسي، مما يجعل من بولس نموذجًا للرسول الملتزم بقضيته في وجه الاضطهاد.
ثانيًا: عالم بولس بين الأمس واليوم
نشأ بولس في بيئة متعددة الثقافات، بين اليهودية والفكر الروماني، ما جعله قادرًا على مخاطبة عوالم مختلفة بلغات متنوّعة. فكونه يهوديًا من جهة ومواطنًا رومانيًا من جهة أخرى مكّنه من فهم التناقضات بين الشريعة والنعمة، وبين الإيمان والأعمال، وهي قضايا لا تزال مطروحة في الفكر الديني المعاصر.
وفي عالم اليوم، حيث تتعايش الأديان والثقافات ضمن فضاءٍ عالمي واحد، تبدو شخصية بولس نموذجًا للحوار بين الإيمان والعقل، وبين الدين والمجتمع. يعبّر في رسالته إلى أهل كورنثوس عن أهمية التواصل الحكيم مع الآخر قائلاً:
"فَصِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لِكَيْ أُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْمًا" (1 كورنثوس 9:22).
يشكّل هذا المبدأ التبشيري المرن المبنيّ على الانفتاح من دون المساومة على جوهر الأساسي لفكرٍ تبشيريّ حديثٍ يقوم على احترام الآخر من دون فقدان الهوية الإيمانية.
ثالثًا: اللاهوت البولسي في مواجهة تحديات العصر
تميّز بولس بقدرته على الربط بين الحدث الخلاصي والممارسة الحياتية، فأعلن في رسالته إلى أهل غلاطية:
"لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ، لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ، لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 3:28).
يشكّل هذا النصّ حجر الزاوية في الفكر المسيحي الاجتماعي، إذ يطرح مبدأ المساواة في المسيح. وفي عالم اليوم، الذي ما زال يعاني انقسامات قائمة على العرق والجنس والدين، يمكن لهذا التعليم أن يكون أساسًا لخطابٍ يدعو إلى العدالة والمساواة.
كما أعاد بولس تعريف الحرية، لا كتحرّرٍ من الناموس فحسب، بل كتحرّرٍ في الروح:
"حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ، هُنَاكَ حُرِّيَّة" (2 كورنثوس 3:17).
يقدّم بولس من خلال هذا التعريف مفهومًا روحيًا للحرية يتجاوز الفردانية الحديثة، ويربطها بمسؤولية المؤمن تجاه الجماعة.
رابعًا: بولس كشاهدٍ معاصر في ضوء الفكر الإنساني
إذا نُظر إلى بولس من زاوية فلسفية وإنسانية، يمكن اعتباره مفكرًا وجوديًا، إذ عبّر عن الصراع الداخلي بين الجسد والروح، بين الضعف والنعمة، بقوله:
"إِنِّي أَفْعَلُ مَا لاَ أُرِيدُ، وَأَمَّا مَا أُرِيدُ فَلاَ أَفْعَلُهُ" (رومية 7:15).
يجسّد بولس الصراع الإنساني الدائم بين الرغبة في الخير وقوى الشرّ في داخل الإنسان، ما يجعل منه مرجعًا في فهم الطبيعة البشرية من منظورٍ لاهوتي وإنساني في آن معًا.
الخاتمة
إنّ حضور بولس الرسول في عالم اليوم لا يقتصر على بعده الديني وحسب، بل يمتدّ إلى المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية. فهو رسول الانفتاح والوحدة، ومعلّم الإيمان العامل بالمحبّة. رسائله، التي كتبت في زمن الاضطهاد، لا تزال تحمل دعوة إلى الثبات في الرجاء، وعيش الإيمان كقوّة تغييرٍ في وجه الأزمات.
من هنا، يمكن القول إنّ فكر بولس يشكّل جسرًا بين المسيحية الأولى والإنسان المعاصر، بين الوحي والتاريخ، بين الإيمان والعقل، داعيًا كلّ مؤمنٍ إلى أن يصبح «رسولًا» في عالمه الخاص، على مثال بولس الذي قال:
"أنْ تُبَشّرَ بِكلامِ اللهِ وتُلِـحّ في إعلانِهِ بِوَقتِه أو بِغَيرِ وَقتِهِ" (2 تيموثاوس2:4 ).