En | Ar

العدالة في لبنان: غبّ الطلب

في لبنان، لا تُنال العدالة فقط بالمطالبة بل تعمل العدالة "غبّ الطلب" أي تتحرك وفق معايير غير متكافئة، حيث تحظى بعض الفئات بمسارات سريعة بينما تواجه أخرى عراقيل متكررة. فالقاضي الذي يفترض أن يكون حاملاً لميزان العدل، يجد نفسه في كثير من الأحيان حاملاً أعباء سياسية تفوق قدرته والمواطنون اللبنانيون أمام معضلة معقّدة: كيف تتحقق العدالة في وطن يعاني من تراكم الأزمات؟ ولذلك بعد الغوص في مفهوم العدالة في الإطار النظري من خلال المقارنة بين "العدالة والقانون" وبعد استعراض آلياتها الدولية عبر محكمة العدل الدولية في مقالات سابقة، نلقي الآن نظرة خاصة على الكارثة المحلية من أسبابها إلى أهم خَصائصها.  

ما دور العدالة على مسرح السياسة؟  

يفتقر الغالبية العظمى من النواب، بمن فيهم المحامون، إلى الخبرة التشريعية الحقيقية ويصوّتون وفق الولاءات الحزبية والطائفية لا المصلحة العامة. وتختفي تماماً دراسات الجدوى والمراجعات الدستورية، كما تغيب أي آلية فعّالة للمحاسبة أو الاستشارات الشعبية. وللعدالة، مثل الكهرباء والنفايات وأي مشكلة يواجهها لبنان، مصدر المشكلة واحد: السياسة... وفعلاً، أحياناً ما تكون الحياة السياسية في لبنان عبرة عن عرض مسرحي مكلف حيث يتبارى النواب في الخطابات النارية على الشاشات بينما يتواطؤون لتعطيل أي إصلاح قضائي جوهري، وحتى في مآسي إنسانية كبيرة مثل قضية انفجار المرفأ التي كانت اختبار حقيقي لمصداقية المؤسسات وقدرتها على تحقيق العدالة. وما زال الضحايا ينتظرون تحقيق العدالة بعد مرور 1750 يوم.... فكيف نثق في هذا النظام الذي كشف كل عيوبه بلا ستار أو رحمة؟  

التشريع: من النخبة إلى النخبة  

إضافةً الى ذلك، أصبحت العملية التشريعية في لبنان أداة لترسيخ امتيازات الطبقة السياسية من خلال وقاحة القوانين المصممة "على القياس" وتكمن إحدى أبرز الحوادث في التعديلات الخفية التي أدخلت على قوانين مثل إعادة تصنيف أراض خضراء محددة في مرسوم تنظيم المدن لتصبح قابلة للبناء لصالح مشاريع شخصية لمسؤولين كبار، متجاوزةً كل المعايير البيئية والتخطيطية. وتحوّل هذه الممارسات القانون من أداة لتنظيم المجتمع إلى وسيلة لنهب ثرواته كما تتحوّل العدالة من مبدأ دستوري سام إلى سلعة تُباع وتُشترى في سوق النخبة، حيث تُقاس ليس بعدالتها بل بمدى توافقها مع مصالح أصحاب النفوذ.  

معاناة القضاء وتعطيل العدالة  

وفي نظام المحاصصة الفاسد هذا، لكانت العدالة في لبنان أثراً بعد عين لولا إصرار القضاة النزهاء والشرفاء على تطبيق القانون رغم معاناة المحاكم اللبنانية من ثلاثية قاتلة: نقص في القضاة (حيث تشير الإحصاءات إلى وجود تقريباً قاض واحد لكل 10,000 مواطن، وهي نسبة تزيد بثلاثة أضعاف عن المعدلات المعتمدة في الأنظمة القضائية الفعّالة) وتقصير واضح في البنية التحتية والتقنيات المعتمدة (أي الاعتماد بشكل شبه كلي على الورق) وثغرات قانونية مستفحلة (فالكثير من النصوص القانونية تحتمل تفسيرات متعددة وتتضمن ثغرات تُستغل بشكل متكرر). وطبعاً، تتحكم وزارة المال، وهي جهة سياسية، بمصروفات القضاء. يحول إذاً هذا الواقع القضاء إلى مؤسسة شكلية، حيث تتراكم مئات الألوف من القضايا المعلّقة في أدراج المحاكم بينما تتعرض ملفات حساسة مثل قضايا الفساد للتجميد بأوامر غير رسمية. وتُحيل الإجراءات البطيئة العدالة إلى حلبة انتظار تُهدر فيها الحقوق وتُضيع الفرص بينما تتراكم الملفات وتتآكل الثقة عاماً بعد عام.  

وباختصار، نادراًً ما تتحقق العدالة في قضايا لبنان الكبيرة حيث تمتد ثقافة الإفلات من العقاب كخيط أحمر في النسيج السياسي اللبناني منذ قانون العفو العام بعد الحرب الأهلية الذي غسل جرائم الحرب بشطبة قلم إلى محاولات اليوم لإخفاء مهربي الأموال في ظل الانهيار المالي. لم تُضعف هذه الثقافة العدالة فحسب بل شكّلت أكبر عائق أمام بناء دولة القانون حيث يختزل المواطن كل مؤسسات الدولة بصورة "المحاسب الذي لا يحاسب". ورغم كل شيء، تلوح أخيراً مؤشرات إصلاح كرفع السرية المصرفية ويبقى تحدي تحويل هذه الاستثناءات الإيجابية لمسار دائم، فكما كشف الانهيار الفساد، قد يفرض ضغط شعبي ودولي محاسبة تبدأ بالأموال المنهوبة... ولعلها تمتد لباقي الملفات ونحقق استقلال حقيقي وفعّال للقضاء...  

PARTAGER