En | Ar

مقهى "الهورس شو" : ذاكرة الفكر المنسيّة

من قلب بيروت: المدينة الخالدة النّابضة بالحياة رغم شتاء الأزمات الذّي لا ينفكّ يعصف بها، تولد الثّقافة والحضارة لتوزَّع من بعدها على العالم أجمع. عاصمة العرب الثّقافيّة كانت ولا تزال تشكّل نوعًا من الجاذبيّة، مما يجعلها وجهة كلّ كاتبٍ وباحثٍ وأديبٍ متعطّشٍ للإلهام والسّحر.

في شارع الحمرا كانت البداية، الشّارع الذّي يعكس صورة بيروت التّي أحبّها اللّبنانيّون والعرب والأجانب. أطلّ في النّصف الثاني من القرن العشرين ليكون منارة المدينة حتّى ذاع صيته وتحوّل إلى مقصد كلّ سائح.

من ناحية الأدب والفنّ، أصبحت كلمة "الحمرا" موازية للمسرح والسّينما ومقاهي الرّصيف التّي نالت شهرةً تعدّت حدود الدّولة. وهناك سطع اسم المقهى الأشهر على مستوى الوطن آنذاك: مقهى " الهورس شو" اللّامع.

انطلق «هورس شو» عام 1959 كأوّل مقهى رصيف في الشّارع وتحوّل إلى أهمّ ملتقى للمثقّفين اللّبنانيين والعرب على اختلاف عقائدهم وأحلامهم. كان أشهر مقاهي الحمرا، خصوصًا أنّ روّاده هم من الصحافيّين والفنّانين والمفكّرين والشّعراء وسيّدات المجتمع. كما أنّ عربًا كانوا يأتون إلى لبنان خصيصًا لزيارته. لذلك ليست مبالغة إن قلنا أنّه كان أشهر مقهى في الشرق الأوسط وأنّه شكّل جزءًا من القوّة النّاعمة الجبّارة التّي كان يتمتّع بها لبنان على مختلف البلدان. كان مركزًا تُحاك فيه العلاقات الاجتماعيّة ومسرحًا تلقى عليه القصائد إذ أنّه كان مقصد لاثنين من أهذب الشّعراء: محمود درويش ونزار قبّاني. والملفت للنّظر، أنّه كان المقرّ الأوّل للنّخب اللّبنانيّة والعربيّة، فكانت تُشرّح على مائداته الأفكار السّياسيّة من قبل أصحاب العلوم والقوانين والمحلّلين، ومن نتاج الثّقافات المتناقضة كانت تولد العناوين الأولى للصّحف السّياسيّة والفنيّة. لم يتوقّف الرّوّاد عند هذا الحدّ، بل كان بعض الرّسامين أيضًا يحضرون إلى المقهى و يفرشون أوراقهم على تلك الموائد ويرسمون بأصابع الباستيل وأقلام الماجِك أو الفحم أجمل اللّوحات على الرّغم من كلّ الضّجيج المحيط بالمنطقة.

ولكن شاءت الظّروف أن يكون مسار الحياة مغايرًا لما عهده الرّوّاد. فبعد نموّ الحركة القوميّة واليساريّة في المنطقة ومع انطلاقة الثّورة الفلسطينيّة ونشوب الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، تلقّت مقاهي بيروت ضربات موجعة. حيث قاوم شارع الحمرا الحرب التّي استمرّت 15 سنة، بل يقول كثيرون إنّه انتعش خلالها، لكنّ السّنوات التّي تلت الحرب راحت تطيح برموز الشّارع من متاجر ودور نشر وصحافة وسينما، ولم تُستثنَ المقاهي التّي أخذت تغلق أبوابها بالتّدرّج.

وبذلك تحوّل مقهى "الهورس شو" إلى " كوستا بيروت " والنّعي هنا لا يختلف عن نعي من نحب. كانت قيمة مقاهي بيروت فيما مضى، بمرتاديها ومستوياتهم في المجتمع، أهل الثّقافة والصّحافة والسّياسة والفكر والأدب، ولكن تغّيرت الحياة اللبنانية كثيرًا وتغيّرت المقاهي التّي كانت من أبرز معالمها التّراثيّة ونواديها الثّقافيّة لتحلّ محلّها أماكن طاردة دون روحٍ أو ذاكرة.

أمّا اليوم، أصبح مقهى «الهورس شو» مقهى لشركة عالميّة في إشارةٍ إلى علامات التّحوّل في المدينة. فهل نقول أخيرًا اللّعنة على "الكساد الاقتصاديّ"؟!

PARTAGER