قرأت مؤخراً كتاباً للصحفي الفرنسي اللبناني مروان شاهين، يتناول فيه أحداث نهار الأحد 13 نيسان 1975 التي أدت إلى اشتعال حرب دموية استمرت لحوالي 15 سنة. من خلال لقاءات أُجريت مع أشخاص عايشوا تلك اللحظة المصيرية لدولة حديثة المنشأ، لا يتجاوز عمر استقلالها 32 سنة، وزيارة ميدانية لمعاينة الأماكن التي شهدت على تدمير شعب بأكمله وتقسيم شعبه إلى عدة فروع تقاسمت بدورها فيما بعد، يحاول الكاتب، بعون حنكته الصحفية، سرد الأحداث بشكل منطقي وعلمي، وبوصف الحقيقة كما هي، حتى لو كانت صعبة على بعض الأشخاص الذين يظنون بأن قتل أو خطف إحدى الأشخاص الذين يحملون فكراً سياسياً مغايراً يكون جزءاً من معركة تحرير الأرض أو معركة الدفاع عن الوجود. يحمل الكتاب عناوين ضخمة لطالما شكلت حاجزاً ما بين اللبنانيين، الفلسطينيين والسوريين، مثل معضلة الكفاح المسلح، والوجود الفلسطيني والسوري في لبنان، أو تسلح الأحزاب المسيحية من أجل المقاومة. نلاحظ، عند قراءة بعض السطور، أن أغلبية المقاتلين، مهما كان الطرف الذين ينتمون إليه، يحاولون طمس الحقيقة ونكران الماضي، ظناً منهم أن جراح الأمس يمكن شفاؤها من خلال الصمت والنسيان. البعض الآخر منهم، يتفاخر بعدد الأرواح التي سقطت تحت نيران بندقيته الروسية أو الأمريكية، أو بعدد الإصابات التي لا تزال تعلم جسده وتشكل الدليل الحي لضلوعه المباشر في المعارك الشرسة التي خاضتها فصيلته أو عصابته. من بين هؤلاء الأشخاص التي قابلها مروان، عجوز سبعيني، تكتنف الروايات حول الأسباب التي أدت إلى بتر رجله. فهو يقول بأن شظية أصابته خلال معركة مخيم تل الزعتر، ولكن، وبإجماع شاسع، يعترف أقاربه وأصدقاؤه أن زوج إحدى عشيقاته هو من سرق ساق الرجل الذي سرق براءة حبيبة قلبه.
غير أن الحرب، شكلت مفصلاً حقيقياً لحياة بعض المواطنين، فبشير أبو عاصي، الذي فقد والده نهار 13 نيسان، تميزت حياته بانخراطه في الحياة الحزبية وبشؤون الحزب الذي كان ينتمي والده إليه واستشهد من أجله. فبشير مستعد هو أيضاً لأن يخسر حياته وعائلته من أجل قضية يؤمن بها.
مجزرة حافلة عين الرمانة، تركت ذكرى أليمة لدى رضا حسين، نجل سائق الحافلة، أحد الناجين من تلك المجزرة. بدايةً، حول رضا التهرب من الكاتب، وعدم الإجابة على أسئلته. على رغم قلة كلامه، تمكن مروان من استخراج بعض الجمل والكلمات الحزينة التي تكلم بها رضا. فلرضا، حكايات عشق طويلة تجمعه مع هذه الحافلة الحمراء، التي تصفها والدة رضا بال-"منحوسة". كما إن عند رضا خزنة مملوءة بالسلاح الحربي الخفيف والثقيل، ويوضح للكاتب أنه مستعد للحرب إذا لزم الأمر، على رغم معرفته بالكوارث التي يمكن أن تسببها تلك الأخيرة.
كتب مروان أن عدم الاعتراف بتاريخ موحد للكيان اللبناني، وعدم محاسبة المرتكبين، أياً كانوا، هي العوامل التي أدت إلى عدم تجاوز أشباح الماضي الأليم. فرؤساء الميليشيات، بعد انتهاء الحرب، اتفقوا على عدم المحاسبة لتقاسم السلطة فيما بينهم. فإلى متى سيتعلم الشعب اللبناني العظيم أن لا مكان للطائفية في طريق بناء الدولة القوية؟