يقول أفلاطون "الموسيقى هي قانون أخلاقي يمنح الروح للكون ويمنح أجنحة للعقل، تساعد على الهروب إلى الخيال، وتمنح السحر والبهجة للحياة".
وكم نحن بحاجة اليوم لأن نطير ونحلق بخيالنا مع الموسيقى الحالمة، فنتصور الواقع بصورة تختلف جدّاً عما نراه اليوم من حروب وصراعات! نعم، إنها الموسيقى، تلك التي وصفها جبران خليل جبران بلغة النفوس فكتب عنها أول كتبه: "الموسيقى" الذي نُشر عام ١٩٠٥. فهي بحسب جبران "إناء مرارة الغرام وحلاوته"، وكم من الأشخاص وقعوا في الحب أو عاشوا حالة الفراق بين خيوط النغمات وصدى الإيقاعات؟ دعونا نتخيل صورة حبيبين يجلسان بالقرب من بعضهما البعض ويتحدّثان ليُظهرا حبهما المتبادل. وهي الصورة التي رسمها جبران بكلمات عاطفيّة رائعة في بداية كتابه: "جلست بقربِ مَنْ أحبَّتها نفسي أسمع حديثها..."، حبيب يجلس بالقرب من حبيبته يصغي لكلامها. هذا الكلام الذي سيرافقه حتماً تنهّدات وأصوات زفير ابتسامات، وستتقطّع الألفاظ حيناً لتعود فتلتقي حيناً آخر، وقد يختفي بعضها لتختبئ بعض الكلمات بين الشفاه. عندها ستتحوّل العبارات إلى نغمات، إذ سيغيب الفهم عن القول، وسينشغل القلب "عن جوهر حديثها بجواهر عواطفها المتجسّمة بموسيقى هي صوت النفس". ولن يعود الحبيب يسمع سوى نغمة الصوت التي تهزّ القلب وتظهر عواطف النفس الدّفينة.
لكن الموسيقى ليست فقط للحُب، إنما هي رفيقة كل الأوقات، "تجتاز معنا كل مراحل الحياة، تشاطرنا الأرزاء والأفراح وتُقاسِمُنا السرّاء والضراء" بحسب قلم جبران. ففي كتابه، تناول الموسيقى بوصفها صوتًا فريدًا للروح، ووسيلة للتعبير عن المشاعر التي تعجَزُ الكلمات عن وصفها. يرى جبران في الموسيقى لغةً عميقةً تتحدث مباشرةً إلى أرواح البشر، وتتيح لهم فَهم أبعاد جديدة من وجودهم. ولعلّ هذا الفهم العميق يجعل الموسيقى ملجأً حصيناً، خاصةً في أوقات الحروب والأزمات، حينما تبدو الكلمات قاصرة عن مواساة النفوس المنكسرة.
يتجلى تأثير الموسيقى في الظروف الصعبة بقدرتها على تهدئة الروح وإعادة الثقة والطمأنينة إلى الناس الذين يمرون بظروفٍ قاسية. فعندما تمزِّق الحرب المدن وتهدد الأمان، تتحول الألحان إلى أصواتٍ تملأ الصمت القاسي، وتعيد للناس شيئًا من السلام الداخلي. يقول جبران عن الموسيقى: "هي التي تجعلنا نحلم فوق عالمنا المتغير وتوصلنا بالعالم الذي لا نهاية له." وهكذا، تصبح الموسيقى حلقةَ وصلٍ بين الإنسان وجوهره الروحي، حتى في أشدِّ الأوقات قتامةً. من خلالها، يجد المتألِّمون ملاذًّاً يشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم، وأنَّ هناك أصواتًا تشاركهم مشاعرهم وتعبّر عن معاناتهم. يُلاحَظُ في تاريخِ الحروب، سواء في الماضي أو الحاضر، أنَّ الموسيقى والأغاني الوطنية كانت تشكّل رمزًا للقوة والثبات، فتظهر الأنغام التي تحثّ على المقاومة والصمود. من جهة أخرى، توفر الأغاني الحزينة متنفّسًا يعبِّرُ عن الأحزان التي يختبرها الأفراد في ظلِّ النزاعات. جبران نفسه كان يرى الموسيقى عالماً لا يتغيّر رغم تغيّراتِ الحياة، وملجأً يمكن للناس من خلاله أن يستعيدوا شيئًا من الإنسانية. هذه الفكرة ذاتها تظهر اليوم، حيث نجد الموسيقى تجمع بين الأفراد الذين فرقهم النزاع، وتمنحهم صوتًا يعبّر عن وحدتهم وأملهم في مستقبل أفضل.
وهكذا، تبقى الموسيقى رمزًا للحرية والصمود، وتذكّرنا بأنّ للفن دورٌ كبير في مساندة النفس البشرية، وتثبيت الإيمان بالحياة رغم كلِّ الصّعاب. ولو أردنا فعلاً تشريح مكنونات الموسيقى، لوجدنا في كلِّ تفصيلٍ لغةً مختلفةً تخاطب الموسيقى بها النفوس.