" لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أمّا خالد فالوطن عنده هو المستقبل. وهكذا كان الافتراق، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح"
-- غسّان كنفاني، عائد إلى حيفا -
اغتيل الكاتب والأديب الفلسطيني غسّان كنفاني على يد الموساد الإسرائيلي عام 1972 إثر انفجار سيارة مفخخة في بيروت. طبعًا، لم تكن المرّة الأولى التي أقدمت فيها إسرائيل على استهداف شخصيّات بارزة، كما لم تكن المرّة الاخيرة
ففي كتابه المعنون ب:"انهض واقتل أولا.. التاريخ السّري للاغتيالات الإسرائيلية " ، قدَّرَ الكاتب الإسرائيلي رونين برجمان أنّ عدد الاغتيالات التي نفّذتها إسرائيل بلغت أكثر من 2700 عمليّة خلال 70 عامًا من قيامها. وجاء في الكتاب: "إذا جاء شخص ليقتلك فانهض واقتله أوّلا"، تلك كانت العقيدة التي ردّدها أكثر من شخص متبنٍّ للحركة الصهيونية ممّن اعتمد الكاتب على شهادتهم في تبريرهم للاغتيالات الإسرائيلية. وهنا، لنا أن نسأل: أيُّ تهديدٍ هذا الذي شكّله كنفاني وغيره من الأدباء والشعراء حتى تلطّخت أيدي الكيان الصهيوني بدمائهم؟ وكيف لقلمٍ واحدٍ أن يهدّد كيانًا بأكمله؟
يقول الرّوائي والكاتب المصري سيد نجم: "الأدب والفنون جميعها تعدُّ وسيلة ناجعة وقادرة على توطيد الذّات الجماعيّة في مواجهة العدوان، كما تؤدي دورها في كشف الآخر المعتدي، وإبراز ما يرسله من أفكار ويمارسه من أفعال حتى يتسنى مواجهته". وقد أثبتت التجارب الإنسانية على مر التاريخ قوّة الكلمة، مكتوبة كانت أم ملفوظة، ودورها في الحركات التحررية النضالية أو الثورية. يعود ذلك لقدرتها أوّلا على توجيه وعي الشعوب وإذكاء عقولها في سبيل مواجهة أعدائها. وثانيا، لقدرتها على إعادة إحياء القضية في نفوس أصحابها بعد أن تكاد تنطفئ نتيجة تغافلهم. وهذا التغافل غالبًا ما يحصل نتيجة إشغال هذه الشعوب بشؤونهم الفرديّة بغية حرف تفكيرهم عن القضايا الجماعية والمصيريّة
إلّا أنّ كنفاني كان متيقّظًا لحنكة عدوّه ودهائه، فهو وإن أبدَع سردًا ما انفكّ يكتب المقالات والكتب التّاريخيّة والنقديّة. فقد أدرك جيّدًا دور الأدب الصّهيوني في استعطاف العالم وتأليب الرّأي العام، خصوصًا أنّ كثيرا من الرّوايات العبرية تمّت ترجمتها إلى لغات عالمية. حيث كان أبطالها اليهود دائما ما يؤدّون دور الضحية والمعتدى عليهم. وقد فصّل ذلك غسّان في كتابه المعنون ب:" في الأدب الصهيوني"، وقال: قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي
وعليه، قرّر غسّان أن يقاوم الصهيونية الأدبيّة بتأسيسه لما سمّي ب "الأدب المقاوم". ففي روايته "عائد الى حيفا"، يتحدّث عن حرقة وألم سعيد وصفية عند لقائهما ابنهما خلدون لأوّل مرة في زيارةٍ لهما لبيتهما الذي سُرِق، بعد أن أُجبرا على مغادرته إِثرَ القصف العنيف. عشرون عامًا مضى، وهما على يقينٍ أن ابنهما قد استُشهد، ليكتشفوا في النهاية أنّ المستوطنين الجدد لم يسرقوا المنزل فقط، بل سرقوا خلدون أيضا
يختمُ الأديب قصّته بجملةٍ صارخة، يتوجّه فيها سعيد الى ساكنةِ المنزل وإلى ابنه الذي رفض هويّته الحقيقيّة ويقول : "تستطيعان البقاء مؤقّتًا في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب". وبهذه الجملة يكون كنفاني قد خاطب جميع المستوطنين الإسرائيليين
لم يمضِ عامٌ على اغتيالِ الشّهيد غسّان كنفاني حتّى لحق به الشاعر الفلسطيني كمال بطرس ناصر، إثر الغارة الإسرائيلية على بعض مراكز منظمة التحرير الفلسطينية في مدينة بيروت عام 1973. وبناءً على ما طلبه في وصيّته، دفن جنبا الى جنب مع أخاه المسلم كنفاني بعد أعوام من النضال والمقاومة.. وهكذا، اتخذ هؤلاء الأدباء من أقلامهم بندقيّة أشهروها في وجه العدو، ووصل دويّ طلقاتها إلى كافة شعوب العالم، فكانت كلماتُهم صوت الحقيقة الوحيد في ظلّ الصمت المريب الذي خيّم على المجتمع الدولي..