
في ليلة الثّالث من كانون الأول، يبرز مشهدٌ لبنانيٌّ مألوف في عديدٍ من القرى والبلدات، فبينما يهبط اللّيل بهدوءه، تعلو من بين الأزقّة والشّوارع ضحكات أطفال متنكّرين بملابس غريبة، وصيحات أغانٍ تعلو من باب إلى باب، وجوهٌ ملوّنة تختبئ تحت أقنعة معيدةً رسم مشاهد من مسرحٍ شعبي عتيق. إنّها ليلة البربارة، مناسبةٌ يحتفل بها المسيحيّون في الشّرق، تتجاوز البعد الدّينيّ لتتحوّل إلى طقسٍ رمزيّ متجذّر في الوجدان، عبر ممارسات شعبيّة تتناقلها الأجيال كجزءٍ من الذاكرة الجماعيّة.
والانطلاقة من "هاشلة بربارة": أغنية من العدّيّات يغنّيها الصّغير والكبير، لا تخبر فقط عن قصّة القديسة بل أيضًا عن قصّةٍ من لبنان، ففي الرّواية المحليّة والمعتمدة من الكنائس في الشّرق، بربارة من مدينة بعلبك. فمن هي القديسة بربارة؟ وما هي قصّتها؟
في القرن الثالث الميلادي كانت مدينة بعلبك المسمّاة أنذاك ب
Heliopolis،
مستعمرةً رومانيّة غنيّة جدًّا لوجود المعابد فيها، فكانت هناك عبادات مكرّسة للإمبراطور. وشهدت تلك الحقبة انتشارًا سريعًا للمسيحيّة في مختلف أرجاء الإمبراطوريّة، وقد رفض المسيحيّون هذه العبادة، فاعتبرهم الرّومان خَوَنَة وتمّ اضطهادهم. عاشت بربارة في هذه الفترة وكانت من طبقة غنيّة تتبع ديانة متعدّدة الآلهة، واعتنقت المسيحيّة على يد خدّامها، مما ولّد لدى والدها مشكلةً كبيرة كونه من أعيان المدينة، أي من المشاركين في طقوس تكريم الإمبراطور. ولحلّ هذه المشكلة قرّر تزويجها، لكنّها رفضت ونذرت العذريّة لتعيش حياةً مسيحيّة. من هنا تخبرنا الأغنية: "هاشلة بربارة مع بنات الحارة، عرفتا من عينيها ومن لمسة إيديها ومن هاك الاسوارة… هاشلة بربارة والقمح بالكوارة". فبربارة قرّرت الهروب فــ "هشلت" متنكّرة؛ من هنا أتت عادة التّنكّر، "مع بنات الحارة" وهنّ فقيرات لبست القديسة مثلهنّ كما وضعت على وجهها الطين لتخفي ملامحها. ولما علم والدها بذلك أعلن عن مكافأة لمن يعثر عليها. "عرفتا من عينيها"، فالنّساء في الشّرق الأوسط وإلى يومنا هذا يضعون الكحل، وكحل الأغنياء مختلف عمّا يستخدمه الفقراء باللّون والنّوع؛ "ومن لمسة إيديها ومن هاك الاسوارة"، فيداها ناعمتان على عكس أيدي المزارعين المجبولة بالتّراب، ونسيت خلع أسوارتها. أمّا عبارة "والقمح بالكوارة" تشير إلى انتهاء فترة الحصاد ووضع القمح في مخازنه، فليس من مكان تختبئ فيه. تمّ القبض عليها وسلّمت بالتّالي إلى والدها فأمر بقطع رأسها.
وبالعودة إلى ليلة البربارة، يجول الأولاد على البيوت، متنكّرين بالتّموّه بالفحم أو ارتداء ثياب غريبة، ليحصلوا على "عيديّة" مغنين "هاشلة بربارة" وبعض الأهازيج الشّعبيّة مثل: "بربارة بربارة عند الرّب مختارة ... أبوها هالكافر كان عبّاد حجارة". فما إن يقرعوا الباب يهتفون: "بربارة بربارة والقمح بالكوارة ... هزّ الكيس واعطينا لولا فلان ما جينا ولا خشّينا بهلّ الحارة (أو) يا معلّمتي هزّي الكيس الله يبعتلك عريس (إن كانت عزباء)"، فإذا أكرمتهم ردّدوا: "عود فوق عود ... صاحبة البيت من أهل الجود (الكَرَم)" أو "أرغيلة فوق أرغيلة ... صاحبة البيت زنغيلة (غنيّة)"، وإن لم تفعل قالوا: "أرغيلة فوق أرغيلة ... صاحبة البيت بخيلة".
يحتلّ الطعام مكانة رمزية عميقة في قلب العيد، إذ يعبّر عن تاريخ لبنان وهُويّة المنطقة. يتصدّر القمح المسلوق المائدة، رمزًا للحياة والاستمرارية. استُعيض عن السّكر، خاصّة في الأرياف، بدبس العنب أو دبس الخرّوب كمحلٍّ طبيعي. إلى جانب القمح، تُحضّر في هذه المناسبة حلويات شتوية مثل القطايف، والعوّيمات، والمشبّك والمعكرون، وهي وصفات تقليدية قديمة، تتميّز بأنها مشتركة بين المسلمين والمسيحيين وتُحضّر في مختلف الأعياد. وهكذا، يتحوّل الطعام في عيد البربارة من مجرّد ضيافة إلى طريقة طهو حيّة تعبّر عن الجذور، والانتماء.
في الختام، وجب التّنبيه أنّ ليلة البربارة في لبنان ليست نسخة محليّة من "الهالووين
"(Halloween)؛ بل هي احتفال متجذّر في سياق تاريخي واجتماعي وديني محليّ بامتياز. واليوم تكاد تندثر تحت ضغط العولمة وتداخل التّقاليد
، لكنّها تبقى مساحة تتلاقى فيها الأجيال على أغنية قديمة، وطبق من القمح، ومشهد من التّنكّر يحمل معنى تاريخيًا. لذلك حين يردّد الأطفال: "هاشلة بربارة..."، فهم يحيون تقليدًا محليًا متميّزًا، ويؤكدون أنّ الحفاظ على التّقاليد هو حفاظ على الهُوية.