
من الواضح أنه بعد دخول ثورة المواصلات والاتصالات البشرية العصر الحضاري الجديد، وأهمُّ ميزاته التواصل السريع بين الأمم، والشعوب، والتلاقح الفكري، والثقافي، والسياسي. وما أحدثته عملية "الطوفان الأقصى" في العالم من تفاعل وتحوّل للرأي العامّ لدى شعوب العالم التي أيّدت وناصرت فلسطين بعد أن كانت تؤيد إسرائيل خير دليل على ذلك. من هنا نستنتج، ومع أمثلة أخرى منذ تسعينات القرن الماضي، لا مجال للاستفاضة بتفصيلها، نذكر نموذجاً منها هو تكوين الإتحاد الأوروبي، فنستنتج أنّ المسار التاريخي للأمم والشعوب يتجه نحو التّلاقي والتوحّد حول القضايا العادلة وطبعًا حول المصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة، أي يتجه إلى تشكيل كيانات سياسية فوق أُممية، وهو يُناقض المسار الذي كان يفرضهُ الاستعمار الغربي بالتقسيم من مبدأ "فرّق تسُد" ليسهل عليه السيطرة على جغرافيا الشعوب ونهب ثرواتها وجعلها سوقاً لسلعه ومنتجاته.
وفي بلدٍ صغيرٍ كلبنان، تختلط فيه كلّ يومٍ أصوات المآذن ودقّات أجراس الكنائس، فتشكّل مشهداً يُفترض أن يكون لوحةً فريدة للتنوّع والوحدة، إلّا أنّ هذا التنوّع الجميل تحوّل مع مرور الزمن إلى جرحٍ مفتوحٍ ينزف باسم الطائفة والمذهب، بدل أن يكون مصدر قوّة وغنى حضاري. كيف تحوّل لبنان من "رسالة" كما وصفه البابا يوحنا بولس الثاني، إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للصراعات الطائفية؟ ومن المسؤول عن تكريس هذا الانقسام الذي تسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية، حتى بات المواطن يُعرَّف بانتمائه قبل كفاءته، وبمذهبه قبل وطنيّته؟
في البداية، لا يمكن الحديث عن الانقسام الطائفي من دون التوقّف عند النظام السياسي اللبناني، القائم منذ الاستقلال على المحاصصة الطائفية. هذا النظام، الذي قُدّم آنذاك كضمانة للتوازن بين المكوّنات، صار في الواقع قيدًا يكبّل الدولة ويمنعها من بناء مؤسسات عادلة وفاعلة. فالرئاسات موزّعة بين الطوائف، والوظائف تُقسّم على أساس المذهب، والولاءات السياسية تُبنى وفق الطائفة لا وفق البرامج السياسية الوطنية. وهكذا، بدل أن تكون الطوائف ثراءً ثقافيًا بالتفاعل الإيجابي، أصبحت جزرًا مغلقة تتنازع على الحصص والنفوذ. وللتاريخ والإنصاف كانت محاولة يتيمة من المرحوم الرئيس فؤاد شهاب لإقامة مؤسسات حكومية تراعي المحاصصة الطائفية، ولكن على أساس متين من العدل والكفاءة على حدٍ سواء، ولا يمكن لأي زعيم طائفي تجاوزه، ولكن هذه المحاولة أُطيح بها مع الأيام.
ثمّة ما هو أخطر من النصوص الدستورية، وهو الذهنية الطائفية التي تغلغلت في المجتمع. فالانقسام لم يعد حكرًا على السياسيين، بل بات ثقافةً اجتماعية تُورّث في البيوت والمدارس والجامعات. فحتى في الزواج، وفي الصداقات، وفي فرص العمل، يُسأل الفرد عن طائفته قبل اسمه. ومع غياب السّلطة الراعية، تقوم الأحزاب الطائفية بملء هذا الفراغ عبر تقديم الخدمات والضمانات، فتتحوّل من التمثيل السياسي إلى سلطات موازية، يعجز المواطن عن التحرّر من قبضتها.
وعند الانتقال إلى دور الإعلام، نكتشف أنّه بدلاً من أن يكون منبرًا للتنوير والوحدة، غالبًا ما يتحوّل إلى أداةٍ لتغذية الانقسام. فكل وسيلة إعلامية تميل إلى طائفتها أو مرجعيتها السياسية، مما يعمّق الشرخ ويزرع الخوف وسوء الفهم بين اللبنانيين. من المفترض أن يوحّد الإعلام الخطاب الوطني، لكنه بات مرآةً تعكس واقع المحاصصة عينه.
في نهاية المطاف، لا خلاص للبنان إلا بالخروج من منطق الطوائف إلى منطق المواطنة. فالوطن لا يُبنى على الحصص، بل على العدالة والمساواة. وإذا أراد اللبنانيون فعلاً أن يحافظوا على هذا الوطن الصغير الذي أحبّوه، فعليهم أن يدركوا أنّ لبنان الحقيقي ليس لبنان الطوائف، بل لبنان الإنسان. إنّ الإصلاح يبدأ من الوعي، ومن الجرأة في مساءلة هذا النظام الذي حوّل التنوّع إلى لعنة. فالدولة المدنية العادلة وحدها تستطيع أن تعيد إلى لبنان وجهه الحقيقي... وطنًا واحدًا لشعبٍ واحد، لا للطوائف المتناحرة.
من هي القوة الاجتماعية التي تستطيع القيام بهذا التغيير لبلوغ الدولة المدنية العادلة وتحقيق الخلاص للبنان؟ الأمل دائماً موجود، ولا يُعدَم أيُّ شعبٍ حيّ كالشعب اللبناني وسيلةً للتغيير..
ولدينا إشارات لذلك على الرغم من سوداوية المشهد المأزم، حيث تبرز أصوات شباب الجيل الجديد "جيل Z”، التي تحاول كسر هذا الإرث الثقيل في ساحات الاحتجاج، وفي المبادرات الجامعية، وفي الخطاب المدني، والتي تعكس وعياً جديداً يقول بوضوح "نريد دولةً بلا طوائف". إلا أنّ هذا الوعي يواجه مقاومة شرسة من نظامٍ يستمدّ بقاءه من الانقسام ذاته. وهذا الجيل الذي نما وازداد عدداً وجمع قوته ليصل إلى مواقع السلطة هو الأمل في التغيير وتوجيه المسار نحو التوحّد والوحدة بما يتناسب مع الاستشراف المستقبلي للبنان وللمنطقة بناءً على المسار الحضاري التاريخي للبشرية.