En | Ar

حين تسافر النكهات من دفء المطبخ المنزلي إلى فنون الطهي الحديثة

آنذاك، كانت روائح المطبخ تفوحُ في البيوتِ ليلَ نهار فتطبخ  الأمّهات والجدّات بأيديهن جميع أنواع الأطعمة  من الخبز الطازج إلى المربّى، مستخدمات أدوات بسيطة ومقادير تحفظها الذاكرة لا الورق. حينذاك، لم يُعتبرْ الطّبخُ مجرّد وسيلة لإعداد الطعام، بل طقساً من الحبّ والفنّ والذّاكرة. فهو يجمع العائلة بأكملها حول المائدة ويصنع  حكايات  تتناقلها الأجيال. أمّا اليومَ، فأصبحَ المطبخُ عالميّاً ومتعدّدَ التّقنيات بحيث يتّقنُ الطّهاة أساليبَ من ثقافات شتّى. إلّا أنّ جذورَ الطّهي ما زالت تمتدُّ إلى تلك البساطة الأولى حين كانُ كلُّ طبقٍ يحمل نكهة البيت ودفء قلبِ الطاهي.

 

‏في مساءِ تلكَ الأيّام، إعتادَ وَهْجُ المَوْقد ان ينيرَ المساكنَ، لا شاشات الهواتف. وتسلّلتْ روائح الطعام من النوافذ لترويَ حكايةَ بيتٍ يعيش على البساطة والدفء. أما أصواتُ القدور فقُل إنّها موسيقى تملأ البيت راحةً. بالإضافة إلى ذلك، أخذت الجدّة بصوتها الهامسُ بسرّ التّوابل قسطاً من ذاكرة الطّفولة التي لا تُنسى. فبالنسبة لها، الطّبخُ ليس مجرد مهمة يومية، بل لغة حبّ  تعبر عنها بالملعقة والابتسامة. أمّا نحن الفتيات فتعلّمنا من والداتنا أنّ الطّبخَ ليس مجرد وصفة تُقرأ، بل إحساس يُورّث من جيل إلى جيل. فالأمّ تعرف متى ينضج الطعام من رائحته وحسب وكيف يلين العجين من دفء كفَّيْها. ولطالما اعتُبر الطّهي كرمز للحبّ والعائلة والهوية الثقافية: فهو لغة تتحدّث بها الأيادي وجسر يربط بين الأجيال وروح للهوية الثقافية. على سبيل المثال، تُعتبر القهوة العربية أو التركية دعوةً يوميةً للتّجمّع وكلّ رشفة منها تحمل نميمة قديمة أو حديث جديد. أما تناول "الكبّة النيّة" فيعيد إلى بالكَ جمعة الأحبّة يوم الأحد حول طاولةٍ واحد وصورة جدتك التي تدقّها وتدورُها بذراعيها بالجرْن على نغمة صبر قديم.

‏ثم جاءَ زمنٌ جديدٌ…ودخلَ زمنُ التكنولوجيا على المطبخ. فاختلطَتْ أعْبِرَةُ الماضي بصوتِ الآلة الحديثة. لم يكنْ التّغيّر فجائياً، بل بدأَ بهدوء مع دخول الآلات الحديثة إلى المنازل، فأمسى نار الحطب شعلة الغاز وصوت القدر همهمة الفرن الكهربائي.

 وبدأت الأيدي تتقاسم العمل مع الخلّاط والمحرّك والآلة. ومع هذا التّحوّل، تغيّرت أيضاً طُرق التّعلم. لم تَعُدْ الوصفات تُتوارث فقط همساً من أمٍّ لابنتها، بل صارت تُكتب في دفاتر الطّبخ، وتُنشر في المجلات وتُعرض في برامج الطّهي التي تجمع المتعة والمعرفة. وتعددت المعاهد الفنية، فعلى الصعيد المحلّي، تميّز لبنان في أوائل السبعينيّات بمعهد "الفندقيّة" في منطقة "الدكوانة". فتمتع آنذاك بمكانة مرموقة حيثُ ركّز على إعداد الطّهاة في القطاع الفندقيّ. أمّا على الصعيد العالميّ، فتلألأت جامعة "لوزان" الفندقيّة في قلب "سويسرا" كمنارة تجمع بين فنّ الطّهي وروح الإدارة. وتحوّل الطعام إلى علمٍ وفنٍّ يُدرّس ويُصقل بأساليب عالميّة وبرامج متخصصة. أما اليوم، فيُظهر الطهي كلوحة من الإبداع والثقافة المتجدّدة وكحكاية تُروى عبر النكهات والمهارات. بالإضافة إلى ذلك، صارَ العالم أقرب من أيّ وقت مضى. فدخلَتْ إلى مطابخنا نكهاتٌ جديدةٌ، مُحمّلة بحكايات السّفر والتبادل الثقافي. وعلى هذا النّحو، بدأ المطبخ يتوسّع للعالم كلّه من دون فقدان ملامحه الأولى، ولا رائحة البدايات التي لطالما سكنَتْ في الذّاكرة.

 

وأخيراً ليس آخراً، يبقى الطّبخُ عملاً إنسانياً يجمع العائلة على الرّغم من تطوّر التّقنيات وتعدّد الأدوات. نعيش اليوم بين روائح الطهي المنزلي وابتكارات المطبخ العصريّ حيث يتداخل الماضي مع الحاضر في كلّ طبقٍ. وهنا يبقى سؤالٌ يطرقُ قلب كلّ عشّاق الطعام: هل نطبخُ اليومَ لنأكلَ أم لنحافظَ على نكهةِ الذاكرةِ؟

PARTAGER