En | Ar

الذكاء الاصطناعي والقانون: نحو ضرورة تكييف الإطار القانوني

يشكّل تطوّر الذكاء الاصطناعي تحدّيًا كبيرًا للعلوم القانونية. فمع تزايد قدرة الأنظمة الذكية على اتخاذ قرارات لها آثار قانونية أو أخلاقية، كالمركبات ذاتية القيادة، أو أدوات تقييم الجدارة الائتمانية، أو المساعدين القانونيين الرقميين، أصبح القانون مطالبًا بالتطوّر لمواكبة هذه التحوّلات التكنولوجية.

من أبرز الإشكاليات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي مسألة المسؤولية القانونية. فعند حدوث ضرر ناتج عن خطأ في أداء نظام ذكي معيّن، يطرح السؤال: من المسؤول؟ هل هو مطوّر البرنامج؟ أم الجهة المشغّلة؟ أم المستخدم؟ إن قواعد المسؤولية التقليدية، سواء كانت قائمة على الخطأ أو على مسؤولية حارس الشيء، تبدو غير كافية في هذا السياق، مما يدفع العديد من الفقهاء إلى المطالبة بوضع نظام قانوني خاص بالتقنيات المستقلة ذاتيًّا.

كما يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في ميدان القضاء تساؤلات أخلاقية جدّية. ففي بعض الولايات الأميركية، تُستخدم أدوات إلكترونية لتقدير احتمالية تكرار الجريمة، ما يؤثر على تحديد العقوبة. وقد أثبتت دراسات أنّ هذه الأنظمة قد تعيد إنتاج التحيّزات العنصرية والاجتماعية، بل وتُفاقمها. وهذا يطرح مسألة الشفافية: كيف يمكن ضمان محاكمة عادلة إذا كان أساس القرار القضائي غير واضح وغير قابل للمراجعة؟

يحاول القانون الأوروبي مواجهة هذه التحديات، من خلال مشروع لائحة تنظيم الذكاء الاصطناعي التي اقترحتها المفوضية الأوروبية. وتنص هذه اللائحة على تصنيف أنظمة الذكاء الاصطناعي بحسب درجة الخطورة، وفرض متطلبات تتعلّق بالشفافية، وإشراف الإنسان، وتحديد المسؤولية القانونية. وتهدف هذه المبادرة إلى تطوير ذكاء اصطناعي متوافق مع القيم الإنسانية والحقوق الأساسية.

وتبرز في هذا السياق الحاجة إلى تطوير منظومة تشريعية مستقبلية قائمة على المرونة والوقاية، بدلًا من الاكتفاء بردّ الفعل بعد وقوع الضرر. إنّ التحدي لا يكمن فقط في سنّ قوانين جديدة، بل في إعادة التفكير في المفاهيم القانونية الكلاسيكية مثل الشخص المعنوي، الإرادة، والنية، لتتناسب مع واقع تتّخذ فيه "الآلات" قرارات تؤثّر على البشر. كما ينبغي تعزيز التعاون الدولي لضمان تنسيق القواعد القانونية، خصوصًا وأن الذكاء الاصطناعي يتجاوز الحدود الجغرافية التقليدية.

وبالتالي، تقف العلوم القانونية اليوم عند مفترق طرق: فهي مدعوّة إلى تكييف قواعدها لمواكبة التطورات التقنية دون المساس بمبادئ العدالة وسيادة القانون. فالذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون ذريعة لتفريغ القانون من مضمونه أو لإلغاء المسؤولية، بل فرصة لتجديد الخطاب القانوني وتعزيز دوره كضامن للحقوق في عصر رقمي متسارع.

PARTAGER