لطالما ارتبط مستقبل الشّعوب وتطوّرها بالثروات البشرّية الّتي تملكها كلّ دول, ننشأ ونترعرع منذ الولادة في بلدنا الأم, ننجبل بترابه ونعطّر حياتنا بأريج الوطن إلى أن نشيخ فيحتضننا في أحضان أرضه. لا تعد هجرة الأدمغة ظاهرة حديثة, حيث شهد التاريخ موجات من النّزوح لأصحاب الاختصاص من القرى إلى المدن, ومن الدّول النّامية إلى القارة العجوز وغيرها. فتعتبر هذه الظّاهرة من أكثر المشكلات حضوراً على قائمة المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة اللّبنانيّة.
انّ الدّول النّامية, ولبنان على وجه الخصوص, يعاني من نقص كبير في القوى والكفاءات في مختلف المجالات الصحيّة والتربويّة, اذ يشكل هذا النّقص الدّافع الأساسي للركود الاقتصادي, فالتّنمية مربوطة بشكل كبير بوفرة المؤهلات وأصحاب الاختصاص.
تتعدّد أسباب الهجرة, وتختلف مع مختلف البلدان. ففي لبنان مع ارتفاع البطالة وعدم القدرة على توفير مختلف الوظائف لكافة القطاعات, يقف المتخرّجين أمام هاوية الحياة. فهنا طالب كادح لا يزال يسعى للبحث عن عمل, وهنالك شركات قد أغلقت ابوابها حارمةً أبناء الوطن من استغلال ما اكتسبوه من مؤهلات لتطوير الوطن. لا ننسى قضية عدم الاستقرار السيّاسي والاقتصادي. فالبيئة السيّاسيّة متقلّبة, ما يؤدي الى انعدام الاستثمارات والمشاريع التنمويّة. فالازمة الاقتصاديّة اللّبنانيّة دفعت العديد من الشّركات لاغلاق أبوابها نظراً لانخفاض القدرة الشّرائيّة وارتفاع نسبة التّضخم, الامر الذي دفع الشّاب اللّبناني الطموح للسفر سعيّاً للعمل أو بحثاً عن مستوى تعليميّ لائق.
لهجرة الأدمغة نتائج سلبيّة على بلدها الأم, فانّها تقلّل من مخزون رأس المال البشريّ وتدفع نحو تشوّهات مهنيّة. على سبيل المثال, عند هجرة الكوادر الطّبيّة سينعكس ذلك على بلدها الأمّ من ناحية تدنّي مستوى الطّبابة والنّقص الفادح في خدماتها. انّ الدّولة اللّبنانية تنحل بسبب الهجرة خسارة مزدوجة لضياع ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم واعداد أبنائها, ومواجهة نقص الكفاءات وسوء ادارتها عن طريق استيراد الكفاءات الغربيّة, المعتمدة على غالبيّة المهاجرين اللّبنانيين في شتّى الميادين بتكلفة مرتفعة.
أمام هذه الاشكاليّة يتوجّب على الدّولة اللّبنانيّة القيام بالعديد من الاصلاحات, ومحاولة إيحاد فلسفة تربويّة لمعالجة هشاشة هذا النّظام. كما انّ رفع أجورأصحاب الشهادات والعلماء وزيادة الحوافز يطمئنهم على استمراريّة أعمالهم وعلى استقرار الوضع الاقتصاديّ. إضافة إلى التخلّص من البيروقراطيّة الاداريّة وتوفير الحريّة الفكريّة للمفكرين, من الخطواط المشجعّة للبقاء في لبنان. لا ننسى توفير العديد من الوظائف ودعمها للعديد من طالبي العمل.
ممّا لا شكّ فيه أنّ المهاجرين قد ساهموا في تطوير الدّول المتقدّمة, وساعدوها في الحيازة على الريّادة في مختلف القطاعات. وعلى المعنيين في لبنان التّعامل مع الواقع بكل وعي وتخطيط. فان كان اللّبنانيّ الكفوء نبعاً لدول الخارج, ونبضاً للبلدان المتقدّمة, والمحرك الأساسي لعجلتها الاقتصاديّة, فعليه أن يعود يوماً ما الى وطنه, ويستثمر فيه, ليردّ له بعض الذي منحه منذ صغره