En | Ar

    السّير وسْط الصّخب البيروتي فيه نوع من ملذّة. النّبض مرادف الحياة. والحركة مرادف  النّبض.

 بدأت معالم وسط بيروت تتشكّل على أرداف الطّرقات، ومفاتنها تتراقص بين السّيول والصّقيع المنجرف مع هواء البحر القارص.  ورغم ارتعاشي أمام برودة هذا النّهار، ما رأيتُه أمامي كان كافيًا لنشر حرارة دافئة شبيهة بدفء المَوْقدة ؛ مزيج ما بين الطّبيعة والحجارة، ما بين خَضار بسيط وعمارة ناجية صامدة. 

               أوَ هي صدفة أنّ أبرز ما تبقّى من تراث في تلك البقعة البيروتيّة هي أعمدة؟ أم أهي إشارة من التّاريخ؟  إنّ الأعمدة أسس كل بناء. إنّها الشّرط اللابد منه لصمود أضخم العمارات. والبناء لا يختصر على الحجر والباطون. قد يوازي بلدًا، وشعبًا. إنّ أعمدة الأساس ما زالت صامدة على سطح الرّماد والتّراب. ما زالت متمسّكة. الأساس موجود، لم يغرق. لكنّه متلوّثًا برماد، عنيد صحيح، لكن، غير أبديّ... 

               الأعمدة أكتاف تتّكئ  عليها الشّعوب، لا نتيجة ضعف، بل نتيجة تفاؤل وآمال. الآمال... "ما بين الأسطر آمال." دومًا يقال أنّ جيل الشّباب أمل المستقبل. الشّباب مرادف الفضول، التّحفز إلى الاكتشاف. هم سعاة إلى العلم. 

               لمعت السّماء فوق الأعمدة ولحقها دويّ رعد صاخب وكأنّه إشارة تذكّرني بالورقة الذهبيّة. تلقائيًا، عاد نظري إليها. وإذ بكلمة "أعماقي" قد خفتت رويْدًا رويْدًا لتترك ساحة اللمعان إلى "آمال". وإذْ بالخريطة الفضيّة  تختفي، تاركة مكانها رسمة قلم حادّ، شديد الوقار، ثابت كحجارة التّراث. وإلامَ قد يرمز سوى لأكبر علماء وفلاسفة البلاد، إلى أرقى المؤسّسات العلميّة التي تحتضنها بيروت من مدارس و جامعات؟ أنت غنيّة حقًّا يا بيروت، "ما بين [أسطرك] آمال"... 

               ما بين أسطر كتبك ودفاتر تلامذتك نظرة إلى مستقبل مزدهر، مفعم بأحلام شبابك، منتعش بعبقريّة مكنونة في أعينهم. منذ عهد الرّومان وهي عاصمة للثّقافة ولب الحضارة والعلم. أوّل جامعة للمحاماة بُنِيَت على أرضها. علمها بعراقة تراثها. وكما  تفتخر الأم بتخرّج ولدها، نفخر بتلك الحاضنة للعباقرة، حاضنة المبدعين. 

"أنا تلك الأم حاضنة المبدعين...".  صُعِقتُ عند سماع تلك الجملة. فهي لم تكن مجرّد صدًى لأفكاري، بل صوتًا حيًّا آتٍ من خارج إطار ذهني... نظرْتُ من جديد إلى الورقة، وإذْ بها تتكلّم : "أنا تلك الأم حاضنة المبدعين." لكن الصّوت الذي كان يصدح منها لم يكن غريبًا، بل فيروزيًّا بامتياز. وعندما ميّزت ذلك الصّوت الأيقونيّ، كنت وكأنّني ضغطت على زرّ مذياع. بدأَت أغاني "فيروز" تعزف في مختلف الجهات. تعبُر تفاصيل لبنان من شماله إلى جنوبه،  تستوقف انتباه الشّتاء عند ذكره في أشهَر أغانيها. تودّع الصّيف وتستقبل الثّلج. تنده بأنغامها القلوب وتحاكي الذّكريات. تسلّم على بيروت وتنادي النّاي والموسيقى : "أعطني النّاي وغنّي، فالغناء سرّ الوجود." صدق "جبران خليل جبران". الفن سرّ من أسرار وجود بيروت... 

               من يزور بيروت وخفايا إبداعها، من يسمع سحرها ويلتمس كنوزها، لا ولن يحكمه النّسيان. حتى وسط أسى الأيّام وظلال الأحزان - أم أجدر بي أن أقول ظلم شعب لنفسه - تلك المدينة ملجأ لمُخرِجي الإبداع. حتّى في انتقاد مصائبه، إنّه شعب نابغ في مدينة من الأبعاد.

يحْيا الفن فيكِ يا بيروت، فيَحْكُم مؤبّد على سهو العقول. 

 

*

 

               وأنا واقفة أمام تلك البقعة البيروتيّة،  سرحْتُ في زوايا المدينة عبر الورقة الذّهبيّة ولغزها السّاحر، كما غاص علاء الدين في مغامراته عبر بساطه السّحري. ما إن اقتحم ذلك التّشبيه أفكاري، حتّى أخذت الورقة ترتفع وتتّسع، إلى أن  تحوّلت إلى بساط ذهبيّ طائر، وكأنّها كانت تُصغي بتأنّ إلى ما يدور في ذهني. 

لم أتردّد لحظة أن أركب البساط. كنت واثقة أن الورقة اللغز تسعى إلى البوح بحقائق بيروت شبه الخفيّة، فهي ظاهرة. لكن الفن لا يُرى إلّا عبر أعين فنّان. 

وأخذ البساط الذّهبي يحلّق في أعالي سماء بيروت. هو يتمرجح بين الغيوم والشّمس، وأنا أتمرجح بين ذلك الشّعور الذي لا يوصف بحريّة طائر الفينيق المحلّق، والذهول الذي انتاب عيناي عند رؤية بيروت من القمّة بكلّ تفاصيلها. "ما بين الأحرف إذهال"...

               طار بي البساط في العاصمة. ليتَني أطير وأطير، أبقى بين غيوم بيروت، أجلس داخلها وأشاهد شمسها تشرق بقوّة.

لكن لا شروق دون السّعي إليه.

               عاد البساط إلى نقطة الانطلاق، إلى جامعتي. مهما دارَت بنا عقارب الزّمن، وأعاد التّاريخ نفسه، العلم عودة، العلم نقطة الإقلاع. هو الوحيد الكفيل بتعقّب الجهل وتحرير العقول من الغفلة... 

               تحوّلَ البساط من جديد إلى الورقة اللغز الذّهبيّة. لكنّه ترك وراءه دليلًا إضافيًّا. كان مرسوم على الورقة سهمًا متحرّكًا يشير إلى داخل الجامعة. بالرّغم من غرابة هذا المشهد، لم يلتفت أحد من المشاة، وكأنّني، أنا وورقتي السّحرية، بعيدين عن الأنظار. تعقّبتُ اتّجاهه الذي كان يتغيّر كل ما زاد المشي خطوات. 

أخيرًا، أخذتني الورقة إلى متحف "الميم". فورَ وصولي، تحوّلَت إلى تذكرة دخول إلى المتحف وكأنّها تَدعوني بكل شوق إلى زيارته. دخلته، وإذ بالرّوائع تتوالى أمام أنظاري. حقًّا شُيّد هذا الكون بأنامل الحِرَفيّة والتّأنّي، وها هي بيروت تحافظ على جزءًا غنيًّا منها. أحجار كريمة من كل زوايا العالم، بكلّ ما فيها من نضارة وجمال، تستقيم في مكان واحد، مجتمعة، جاهزة لِتُبهِر كل من يقرّر زيارتها وتأمّلها. هي تلمع في الضّوء، والإبهار بمدى حنكة روْنقها يلمع في عيناي. هكذا إذن تصنع الطبيعة عجائبها. أهي تفوّقت على نفسها بإبداعها، أم أنحن لهذه الدّرجة لا ندركها؟  

                شعرت وكأنّني أتنزّه في حديقة من الأحجار الكريمة، في حديقة من النّوادر الكونيّة. في حديقة...

 فجأةً، لمعت كل الأحجار من حولي، وكأنّها اتّحدت لتصدر هذا الوهج بحدّة البرق. وإذ بالتّذكرة تعود إلى شكل الورقة اللغز. "اِبْحَث في نوادر أعماقي، تجد تنوّع حدائِقي". كانت الأشعّة المنعكسة من الأحجار تُنوّر بأفضليّة بارزة عبارة "تنوّع حدائقي". وفي لحظتها، فهمت. إنّ حدائق بيروت هي كلّ من تراثها، فنونها، علمها وثقافتها، متاحفها... هي كل زاوية منها. 

               بيروت ساحة من الحدائق الخفيّة. هي جمع من كنوز. لحدائقها جذور  بعمق تراثها، خَضار بِنُبوغ علمها، حفيف أوراق بعذوبة موسيقاها، ألوان وزهور بإبداع فنّها، سياج بِحِرَفيَّة حِجارِها... حديقة بحاجة أكثر من ماسّة إلى سواقي ماء تَرْويها، لعلّها تبقى وتقوى. 

               إنّ الشّعب هو تلك المياه المُنعشة، والوعي تلك السّواقي اللابد منها. ماذا لو كنّا بمتانة جذور أشجار الحدائق،  متشبّثين بالتّربة التي ننغمس فيها، فلا تنجرف وتُنسى؟ ماذا لو كنّا مُتفانين كزُهورها، يفوح شذانا دون إخفاء عطور بعضنا؟ ماذا لو اتّحدنا كما تتّحد الطّبيعة بأركانها الصّلبة، فيتّحد التّراث بالعلم، والعلم بالفن، والفن بالطّبيعة لِتوجَد بيروت خارقة، فتُعيد النّبض إلى لبنان، كما نبضات القلب تطلق سراح الحياة في كَيان المولود الجديد؟ ماذا لو، ببساطة، تعلّمنا من الطّبيعة؟

               " بالرّغْم من ظلم الإنسان، ولا الأيّام، حاوِلوا فك الكلام". بيروت... بي رُوَت... : "بي رُوَت الأرض شجاعة وبروع. بي رُوَت قصص التّاريخ. يُقال من الاسم تُلقّبون وتعرفون، وباسمكم يشار إليكم. فاعْرَفوني. أنا بيروت! احفظوا اسمي وحافظوا عليه، لعلّكم تحفظوا وطنِيّتي وتحافظوا عليها"، لعلّكم تتحرّرون وتتّحدون بالحرّية...

 

*

 

               وكما كان البرق إشارتي أيّها القرّاء، دَعوا روايتي تكون إشارتكم. إنّ بيروت تَنْده لكم، لعلّها تتحرّر من تلطّخ رمادها وتتّحد حدائقها، فيتّحد شعبها ويستوحي من تاريخه...  

انظروا إليها، وناضلوا من أجلها. عندها تكونوا قد ناضلتم لأجلكم. 

PARTAGER