En | Ar

 خطوات مُشاة،  قطرات شتاء، وإطارات السّيارات تتنافس مع ارتماء السّيول على الطّرقات. وسْط ذلك الزّمهرير البيروتيّ، توقّف الزّمان للحظة، واخترق البرق السّماء. غير أنّه لم يكن مجرّد برقٍ طبيعي. كان شديد اللمعان، رهيب القوّة، وكأنّه يمتلك هيبة أسد أتت وارتطمت بالأرض، أمامي بأمتار قليلة.

 انقضى البرق وعادت النّاس إلى حياتها ويوْمها، كما عادت عقارب السّاعة تنسجم مع الوقت. نظرت من حولي، غير أنّ العالم بدا على أكمل طبيعته. لم يلاحظ كائن ما قد أتى بالشّارع منذ ثوان عديدة.

               عادت عيناي إلى المكان الذي أصابه البرق، وإذ بها تصطدم بورقة ذهبيّة لامعة كالبرق الذي تركها وحيدة في شوارع بيروت. لم أجد نفسي سوى منجذبة إليها كالمغناطيس، ألتقطها بَكفّيْ فأشعر بدفء يتفشى بين يداي. من الخارج، كان محفورٌ بخطّ فضيّ ساطع كلمةً تأرجحت في ذهني ما بين الفضول الجاذب والاستغراب المحيّر. تلك الكلمة التي تحمل في كيانها غموضاً  يدفع الإنسان دومًا إلى محاولة فكّها واستكشافها. وسْط خفق الشّتاء والنّاس، كنت أمسك بين يداي كلمةً لامعةً تتناقض مع عتمة السّحاب، كلمة لغز. لغز... لكن... ولِما يأتي البرق بنفسه ليترك لي شخصيًّا لغزاً محيراً؟ أين المنطق السّليم في كلّ هذا؟ لا بدّ أن خيالي شَعر بالملل وأراد أن يخدعني. كل هذا الجنون ليس سوى وهْمًا أتت به عيناي شراكةً مع خيالي لتخدعاني. 

               غير أنّ الورقة الذّهبية كانت حقًّا وحقيقة بين يداي. كنت أمسكها وأشعر بدفئها يتمشّى بين الأحرف. فتحت تلك الورقة الغريبة، وما كان محفورٌ داخلها غلب بتفوّق كلمة لغز من حيث الحيرة التي خلقها : حدائق بيروت الخفيّة. "حدائق بيروت الخفيّة؟". وفي لحظة تهجّي تلك العبارة الغامضة بصوتٍ خافت،بدأت ترتسم بالفضيّ عباراتٌ على الورقة، وكأنّني نطقتُ بكلمة السّر، فإذ بالسّحر ينحدر عليها : 

"بالرّغْم من ظلم الإنسان، ولا الأيّام، حاوِلوا فكّ الكلام. 

ما بين الأسطر آمال، وما بين الأحرف إذهال.

أنا أم الشّرائع أجمعين، أنا تلك الأم حاضنة المبدعين. 

ابحث في نوادر أعماقي، تجد تنوّع حدائقي."

               حاولت قراءة ذلك اللغز الفضيّ مرارًا وتكرارًا حتّى يصبح صداه في عقلي شبه مألوف. تخوفت من قطرات الشّتاء أن تغدر بحبره وتمحيه. لكن كلّما تكرّرت تلك الأسطر السّحريّة في ذهني، بدا لي وكأنّ الحبر الفضيّ يحفر معناه أكثر وأكثر في أعماق الورقة، وكأنّه يحاول إثبات حقيقته التي لا تتقبّل النّقاش. بعد دقيقة شرود أفكاري بين الأحرف المتمايلة أمامها، شعرت وكأنّني صُعقت. لم يكن البرق إطلاقًا، بل تأخّري على الصّف الذي بدأ منذ ١٠ دقائق. وإذ بي أخبئ الورقة الذّهبية في قاع الحقيبة، وكأنّني أكمن سرًّا باهظ الأهميّة. أقطع شارع الأشرفية مُهرْولة إلى الجامعة، وأدخل قاعة المحاضرة بسرعة البرق...

 

*

 

                مرّ النّصف الأوّل من نهاري، نصف شبيه بالمدّ والجَزر، ساجنًا أفكاري الحائرة : تارة منغمسة بلغز حدائق بيروت الخفيّة، وطورًا تكافح ذلك التّوهان لتعيد نفسها إلى سكّة التّركيز لمتابعة الشّرح. ولحسن حظي، كان ذلك اليوم الوحيد الذي ينتهي باكرًا، محرّرًا فكري من التّشتت. خطَر لي للحظة أنّ اختيار البرق هذا اليوم تحديدًا للشّروع في مغامرة لغزه لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، بل صائبًا. قبل مغادرة الصّف، بقيت مع زملائي لبعض الوقت، مأخوذين بالأحاديث، بالضحكات والقهقهات، إلى أنّ بعض الوقت تحوّل إلى ساعة. لا شكّ أنّ الزّمان خادعٌ محترفُ!

               وأنا أغادر القاعة، رافقتني فكرة الوقت ووصفه بِذو الوجْهيْن. قد تتحرّك عقارب ساعاته ببطئٍ خانقٍ، وهذا الوقت ذاته قد يمرّ حاملًا كلّ ما فيه من تاريخ وتراث وأحداث بسرعة البرق. البرق... والتّراث... عبارتان قد تبدوان للوهلة الأولى من عالميْن متعاكسيْن : عالم الطّبيعة، ودنيا الإنسان. لكن كما يصعق البرق السماء، يصعق التّراث أحجار المدن، فيَرسخ فصلٌ رصينٌ تَعمر عبره أسس البلاد وأركانه...

               وفيما كان عقلي يغوص في ذلك التّأويل الفيلسوفي، بدأ ينتابني شعور دفءٍ في ظهري. كانت تلك الحرارة المنتشرة كالنّمل آتيةً من حقيبتي. وبعد النّظر إليها، خطف نظري مشهدٌ أقل ما يقال عنه غريب الأطوار. كانت حقيبتي تلمع ونور ذهبيّ يشع من داخلها كالنّار. وفجأة، تذكّرت! الورقة... اللغز... البرق... حدائق بيروت الخفيّة...  أسْرعتُ إلى الخارج وجلست أفتح الورقة من جديد. بالرّغم من أشعّة نورها السّاطع، لم يكن الضّوء المنبعث منها يعميني. لم أجد داخلها دليلًا جديدًا.  غير أنّ كلمة "أعماقي" بدت تعكس الضّوء بحدّة تفوق بأشواط الكلمات المجاورة لها، وكأنّها تحاول محاكاتي. تناديني عبر لَمَعانها، تدلّني بكل حذاقة إلى معناها. "أعماقي"... 

أعماق بيروت، أي حقيقتها. ما الذي يحاكي  جوهر مدينة؟ ما الذي يسرد تاريخها وجروحها عبر القرون...؟ التّراث! تلك هي الكلمة المفتاح التي حرّكت أشعّة الورقة اللغز! مجرّد اليقين بتلك الفكرة كان كافيًا لترتسم على الورقة خريطة فضيّة. صحيح أنّ كل ذلك قد يبدو خارقًا للآذان ومجرّد نتيجة لخيال جنونيّ بامتياز، غير أنّ سحر تلك الورقة بدأ يمتلك في عقلي مكانةَ حقيقية تحارب بغموضٍ بيروتيّ بامتياز لتصل إلى سطح الوقائع... وقائع لا تنتظر إلّا فضوليّين حقيقيّين يسألون عنها. ولا أعني بالفضول ذلك المتعلّق بفضوليّة الأطفال، بل ذلك الذي يسأل بكل بساطة: ماذا لو؟

               نقط الفضّة التي تشكّلت على الخريطة أشارت إلى مكان مألوف، غير بعيد : المتحف الوطني. توجّهتُ عندئذ إلى ذلك المصدر التّراثي، متشبّثةً بالورقة الذّهبيّة ؛ رحلتي في أعماق بيروت بحاجة ماسّة إليها. 

بدأت جولتي في المتحف، وفضولي يتمشّى بين مختلف الآثار المبهرة.  رأيت نفسي أخطو عبر الزّمن. كان هو، ولو لهنيْهة، عاجزًا. أخطو بين الحاضر والماضي، بين آلاف من سنينه. أتمشّى للحظات عبر ممرّات من التّراث الفينيقي، لأزور بعد ثوان حضارات الرّومان العريقة. أغزو الزّمان بتراثه، أتسّلح بالمعرفة والوعي. تارة ينتابني الشّعور بالفخر والازدهار، وطورًا تغمرني عراقة التّراث. أبتهج بأصالة بلدي وأمّ شرائعه، حتّى أعود وأصطدم بعظمة تحدّياته. 

لكن لن أخفي أن للحظة شعرت بخيبة، وكأنّ الزمن يسخر. شعرت وكأنني أقرأ كتاب تاريخ، لكن، بالمقلوب. 
لا جدوى من التراث سوى أن نتعلّم كيفيّة استمراريّة تألقّه. لا جدوى من الافتخار به إن تحوّلت سياسته من حكم إلى تلوّث...

               جذور بيروت كانت منغمسة حقًّا، لا بتراب منجرف مع مائها، بل بصخر محفور بتاريخها. وكم هي عميقة ! وكم هي عريقة ! عميقة وعريقة... كلمتان يفرّقهما حرفٌ، وتجمعهما كلمة، "مُرّ". مرّ الحياة، مرّ المستعصيات، مرّ الجوارح. لكن لا ينفع الجرح البكاء على الأطلال. لن تشفيها ملاحة الدّموع. 

عادَ نظري إلى حِرَفيّة التّماثيل وتفاصيلها. الإبداع مكنون في هذه المدينة، لو مهما رجع بنا الزّمان بآلاف وآلاف من السّنين. من قد يُخمّن أنّ للحجر صوتاً خارقاً للأزمنة وحكايةً أبديّةً تكفي الإرادة لكشف قيمتها، بل رسالتها؟

               بعد تلك الجولة، تغيّرت خريطة الورقة. أخذت تشير إلى وسط المدينة. وبالرّغم من سيول الأمطار الهائلة، لم أتردّد لحظة في متابعة جولتي التّراثية. نقط الفضّة تقود الطّريق إلى وسط المدينة، وإصراري على فكّ لغز حدائق بيروت الخفيّة يقود إرادتي بالمثابرة.

PARTAGER