En | Ar

مجازر قانا: جرح نازف في الذاكرة اللبنانية لن ننسى

قانا الشاهدة على مجازر العدو  الاسرائيلي

تعتبر قانا إحدى القرى الجنوبية الشهيرة في لبنان، وهي تقع في منطقة صور. تمتاز بموقعها الجغرافي الاستراتيجي والأثري، حيث تتوسط مناطق عدة تشهد صراعات وأحداثًا تاريخية منذ عقود. تُعتبر قانا من أقدم القرى في المنطقة، واحتفظت بتاريخ طويل من العراقة والتراث، معروفة بكونها مركزًا ثقافيًا وحضاريًا في الجنوب اللبناني.

إلى جانب تاريخها العريق، فقد كانت قانا أيضًا شاهدة على العديد من المآسي التي مر بها لبنان، خاصةً في فترات الحروب والاعتداءات العدوانية. وأصبحت هذه البلدة، التي طالما كانت ملتقى للسلام والجمال، رمزًا لمأساة الجنوب اللبناني، بعد أن شهدت وقوع مجزرتين بشعتين في العقدين الأخيرين.

إن موقع قانا الذي كان ملاذًا آمنًا في الماضي تحوّل إلى نقطة ارتكاز مأساوية في زمن الحرب، حيث تعرضت لعدة اعتداءات إسرائيلية مدمرة، كانت أبرزها مجزرتي 18 نيسان 1996 و30 تموز 2006، اللتين تركتا جروحًا نازفة في الذاكرة الجماعية للبنانيين، لا تزال آثارها حية في قلب كل منا، لا سيما في الجنوب.

المجزرة الأولى – 18 نيسان 1996

في يوم الخميس 18 نيسان 1996، خلال العدوان الذي أطلق عليه اسم "عناقيد الغضب"، تعرضت بلدة قانا الجنوبية لمجزرة مؤلمة كانت واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في تاريخ النزاعات اللبنانية. هذا الهجوم كان جزءًا من حملة عسكرية واسعة شنها جيش العدوان على لبنان بهدف تدمير البنية التحتية للمقاومة، في وقت كان الجنوب اللبناني يعاني بالفعل من آثار الحرب الأهلية والتدخلات العسكرية العدوانية المستمرة.

في تلك الأيام، كانت القوات العدوانية قد بدأت بشن هجوم واسع النطاق على لبنان، واستهدفت العديد من المناطق الجنوبية التي كانت تعاني من ويلات الحروب السابقة. في هذا السياق، لجأ مئات المدنيين من بلدة قانا والقرى المجاورة إلى مركز تابع لقوات حفظ السلام الدولية "اليونيفيل" في البلدة، والذي اعتبر مكانًا آمنًا من القصف العدواني. كانت الملاجئ في مختلف أنحاء الجنوب قد امتلأت بالنازحين، وكان الجميع يأملون أن تحميهم القوات الدولية من القصف الجوي والمدفعي. 

لكن ما حدث في ذلك اليوم كان أكثر فظاعة من كل التوقعات. في الساعة 3 :00 بعد الظهر، تعرض المقر لقصف مدفعي عنيف. تركز القصف على المكان الذي كان يحتشد فيه أكثر من 800 نازح كانوا يبحثون عن الأمان. أصوات الانفجارات كانت مدوية، والأرض كانت تهتز من شدة القصف، حيث كانت الانفجارات تسحق كل شيء في طريقها. الهجوم أسفر عن مقتل  106 ضحايا في دقائق معدودة، من بينهم 37  امرأة و34 طفلًا، بينما أصيب العشرات بجروح خطيرة. المشاهد التي انتشرت بعد المجزرة كانت صادمة ومؤلمة؛ جثث الضحايا كانت منتشرة تحت الأنقاض، وبعض الناجين كانوا يصرخون طلبًا للمساعدة، في حين أن البعض الآخر كان عالقًا في الحطام.

على الرغم من الإدانات الدولية للمجزرة، فإن إسرائيل دافعت عن الهجوم، وقالت إن الهدف كان "مواقع تابعة للمقاومة". ومع ذلك، أظهرت التحقيقات التي أجريت لاحقًا أن القصف كان موجهًا بشكل عشوائي، وأن المقر كان ملاذًا آمنًا للمدنيين الذين لا علاقة لهم بالأعمال القتالية. لم يكن هناك أي دليل على وجود مقاتلين داخل المقر، بل كان هناك فقط نساء وأطفال وكبار سن يبحثون عن الأمان بعيدًا عن مراكز المواجهات العسكرية.

المجزرة الثانية – 30 تموز 2006

بعد مرور عشر سنوات، عادت قانا لتكون شاهدة على مجزرة جديدة، وهذه المرة كانت في 30 تموز 2006، خلال العدوان على لبنان في حرب تموز. كانت هذه الحرب أكثر عنفًا ودمارًا، حيث استهدفت إسرائيل العديد من القرى والمدن اللبنانية في محاولة لتدمير البنية التحتية لحزب الله. في هذا اليوم، كانت قانا قد أصبحت ملاذًا للعديد من العائلات النازحة من المناطق المجاورة التي تعرضت للقصف.

وفي ساعات الفجر الأولى، كان العشرات من المدنيين قد لجأوا إلى مبنى سكني في البلدة، معتقدين أنه سيكون مكانًا آمنًا يقيهم شر الحرب. إلا أن الطائرات الحربية العدوانية قصفت المبنى بصواريخ موجهة بدقة، حيث أسفرت الغارة عن دمار شامل للمبنى.

الضحايا هذه المرة كانوا 54 شهيدًا، من بينهم 37 طفلًا، بينما أصيب العشرات بجروح بليغة. المجزرة خلّفت صدمة دولية جديدة، وأدانتها العديد من الدول والمنظمات الحقوقية. بعد الحادثة، أُوقف القصف العدواني لمدة 48 ساعة تحت ضغط دولي، ولكن العمليات العسكرية في لبنان لم تتوقف حتى انتهت الحرب في 14 آب 2006.

رغم الإدانات الدولية للمجزرتين، إلا أنه لم تتم محاسبة إسرائيل على جرائمها في قانا. المجزرتان أصبحتا جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية للبنانيين، واعتُبرتا رمزًا للمعاناة التي تعرض لها الجنوب ا. لم يكن المدنيون في قانا فقط ضحايا للقصف، بل كانوا أيضًا ضحايا لسياسات دولية غير فاعلة في محاسبة مرتكبي هذه الجرائم.

ومع مرور الوقت، تم الحفاظ على ذكرى قانا في الوجدان اللبناني كرمز للعدوان على المدنيين وضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه المجازر. يستمر الجنوب اللبناني في الصمود والكفاح من أجل العدالة، ويبقى الحلم بتحقيق المحاسبة والعدالة حيًا في قلوب الأهالي.

المجزرة الثالثة – 15 تشرين الأول 2024

لم تكن المجازر التي شهدتها قانا في عامي 1996 و2006 آخر فصول المأساة، فبعد سنوات على المجزرة الثانية، عادت البلدة مرة أخرى لتكون مسرحًا لاعتداء إسرائيلي دموي جديد. ففي ظل التصعيد العسكري المستمر في الجنوب اللبناني، استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية ساحة البلدة بست غارات متتالية، ما أدى إلى سقوط شهيد و30 جريحًا وفق حصيلة أولية.

للمرة الثالثة، يُكتب اسم قانا بالدم. ففي 16 أكتوبر، قُتل أكثر من 10 أشخاص على الأقل وأصيب أكثر من54  آخرون في غارات إسرائيلية دامية، استهدفت الأحياء السكنية ، دون أي وجود لأهداف عسكرية. وبعد ساعات من القصف، كانت سيارات الإسعاف لا تزال تنقل القتلى والجرحى من بين أنقاض المباني المدمرة، وسط دمار واسع طال المنازل والمحال التجارية، ناشرًا الذعر بين السكان الذين وجدوا أنفسهم مجددًا في قلب الموت والرعب.

من موقع الغارات، قال أحد المسعفين: «أكثر من 15 مبنى دُمر بالكامل، لقد لحق دمار شامل بحي بأكمله»، مضيفًا أن المسعفين انتشلوا جثامين وأشلاء من بين الركام، فيما رجّح رئيس اتحاد بلديات صور، أن تكون الحصيلة أعلى مع استمرار عمليات رفع الأنقاض، لا سيما في ظل نقص المعدات اللازمة.

وهكذا، تسجل قانا مجزرتها الثالثة في أقل من عقدين، شاهدة على استمرار العدوان الإسرائيلي في ظل غياب أي محاسبة دولية حقيقية. ومع كل اعتداء جديد، تتجدد الجراح القديمة، لكن قانا، رغم كل ما مرت به، تبقى صامدة، حاملة في ذاكرتها تاريخًا من التضحيات والمقاومة. إنها ليست مجرد بلدة، بل رمز لصمود الشعب اللبناني في وجه الاحتلال. فالمجازر التي وقعت في 18 نيسان 1996 و30 تموز 2006 ستظل جرحًا نازفًا في جسد لبنان، ودليلًا على الظلم الذي لحق بشعبه، في انتظار عدالة لم تأتِ بعد.

لقد تحولت قانا من رمزٍ للسلام إلى رمزٍ للمجازر والعدوان، لكنها في الوقت نفسه أصبحت عنوانًا للصبر والتحدي. ورغم الجراح العميقة التي خلّفتها المجازر، فإن قانا وأهلها يستمرون في التشبث بالحياة، حاملين رسالة أمل بعد كل كارثة، مؤكدين أن الذاكرة لن تمحى، وأن العدالة، وإن تأخرت، ستظل مطلبًا لن يُنسى. 

PARTAGER