ها هو الوقت، المايسترو العظيم الواقف وسط الأوركسترا، يحمل بين راحتَيه نوتّات الأيّام وسيمفونيّات الحياة الأزليّة. بلفتة يدٍ واحدة، يمرجحنا بين الجبال والوديان، ينقلنا من لحن طفوليّ هادئ إلى نغم بيتهوفن النّائح. إنّه ذلك القائد الجبّار الذي يصفّق له الجمهور تحت تهديد الزّوال، خوفًا من رصاصته الطّائشة. نراه واقفًا على القمّة، تتبعه العيون وتنتظره ألحان الأيّام على شفاه الأوتار، لتَتَحرَّر من الغموض. بعصاه السّحريّة، يُمَزَّق كلّ ستار، كاشفًا مسارح الحياة الضّخمة تحت أنوار الحاضر. كلٌّ منّا سيَعزف أمامه، أو سيُعْزَفُ عليه بوحشيّة، ليَصْرُخَ أجمل الأنغام. وللأسف، غالبًا ما يختارنا المايسترو ضحيّة من ضحاياه، فيحوّلنا إلى لحن ناي حزين، يتردّد صداه في الأرواح الفارغة التي خسرت ضجّة الحياة في معارك النّضوج. هذه هي الدّنيا، فرقة موسيقيّة رُميت في غياهب المجهول، تحت رحمة طاغية لا يُقهر، اسمه "الوقت".
لا شكَّ أنّ قلمي هذا قد يبالغ قليلًا في حديثه عن الوقت، ويخطّ كلامه بدم ثائر لا بحبرٍ جافّ. ولكن، من ذاق طعم الانتظار المرير على أبواب المستشفيات، يعي تمامًا أنّ الوقتَ موتٌ بطيء؛ ها هو جالسٌ خلف الكواليس، يبني لنا الأيّام على رماد الماضي، بينما يسدلُ السّتار على مسارحِ الآخرين. أصديقٌ هو أم عدوّ؟ أم أنّه الواقف في المنتصف، بين الوفاء والخيانة، السّجن والحرّيّة، الموت والحياة. وما أشرس السّباق بين عجلات الاسعاف وأجنحة الوقت النّاريّة، فالخسارة هنا موتٌ والانتصارُ حياة واستمراريّة. ولكن، في نهاية المطاف، لا مفرّ لنا من الخسارة، فإن نجونا مرارًا من سهام الزّمن، ستلسعنا عقارب السّاعة يومًا ما، وسيقف النّاجون على اللّحد ويتمتمون: "دقّت ساعتهم!" وهكذا، من وَعوَعة الولادة إلى غرغرة الموت، يترتّب دينٌ على مَنكِبَينا، فائدته عمرنا، وإيفاءه غفوةٌ أبديّة.
للأسف، حُكِمَ على اليدِ اليُسرى أن تبقى أزلًا مكبّلةً بقيود ساعةٍ يدويّة صغيرة، إن وجدتنا مبتسمين أطفأت لنا الأنوار باكرًا، وإن رأتنا باكين، جعلت من الدّقيقة مليون ثانية. وهذه السّاعة التي يبلغ ثمنها بضعة دولارات، لا تُباع ولا تُشرى، ولا يمسّها فسادٌ، ولكنّها تفسد كلّ شيء وتنحتُ على الصّخور الكهلة حكايةَ الزّمن الجبّار، بدمعة من الماء. وإنّ الدّقيقة التي لا نعطيها أهمّيّة، قد تكلّف ربَّ العمل ملايين الدّولارات، وقد يدفع ثمنها المريض عمره. ويبقى السّؤال هنا: من كشف السّتار عن أنياب الوقت، ظنًّا به أنّ الوقت يبتسم؟ من الذي صمّم الرّزنامة ورمانا داخلَ هذا المعتقل الأبديّ وجعلنا على مقاعد الصّبر جالسين في انتظار المواعيد؟ أينَ هو الآن يا تُرى؟ أكافأهُ الوقتُ بالخلود، أم طعنه بحربة الخيانة؟ أطرده من سجلّات الحياة الكبرى وأجلسه على رفوف التّاريخ؟ الجوابُ واضحٌ! مكتشفُ الوقتِ باتَ خارجَ الحلبة، ونحن لا نزال في الدّاخل، مؤمنين أنّ التّاريخ خلودٌ لكلّ من يسكن بين دفّتَيه. أهو إثمٌ أن نواجه الوقت بقلم سينفذ حبره بعد يومَين، وأن نتحدّاه بفكرٍ سيصابُ بالزّهايمر مع الوقت؟ الجوابُ واضحٌ أيضًا.
في محكمة الحياة، يتربّع الوقتُ على عرشه، حاملًا ميزان العدالة بشموخ، مخاطبًا الأغنياء والفقراء بلهجة واحدة، وهي الحقّ. هو على صواب دائمًا، ما من سلطة تقهره، حتّى جبروت المال. فلو قدّمنا للوقت مالنا وأملاكنا، لن نشتري الأيّام، ولن نعود بالزّمن أو نسير إلى الأمام. وإن كان جلجامش ثائرًا في داخلنا، لنذكّره بنبتة الخلود التي التهمتها الحكمة بشراهة. عبثًا نحاول أن نبحث عن البقاء، ولو اختبأنا في قعر الأرض أو هربنا إلى أعالي الجبال؛ إنّ الوقتَ الذي سدلَ ستار اللّيل لا يغفو.
يومًا ما، سنحمل حقائب الرّحيل ونمشي نحو نهاية الأصيل، لنعود من حيث أتَينا: "المجهول"! كان بالأمس دفء المهد يحضننا، وأصبحنا الآن على موعدٍ قريب مع تراب الفناء. قد نجلسُ على قبور الأجداد، ونسأل: "أهذا حقًّا أنا؟ "من ... إلى ..." وانتهى؟" ولكنّ للوقت هزيمة، وهي الابداع. فهذه السّاعة الرّمليّة التي تخنقنا برمالها، هي الصّندوق الذي يدعونا الابداع للخروج منه. الوقت سجن، والابداع حرّيّة! لِنُمزّق رزنامة الأيّام، لِنَخرج من مربّعاتها بأسرع وقت ممكن. نحن حبّة الحنطة، تلك التي تموت تحت باطن الأرض لتزهر. ولكن، ماذا لو عادت أفعى جلجامش والتهمتها؟