En | Ar

The Leftovers: لوحة مأساوية من البحث الإنساني عن "لماذا" في عالمٍ يجيب بـ "لا شيء"

تهدف معظم الأعمال الفنية إلى الترفيه أو توفير وسيلة للأشخاص بهدف  الهروب من العالم الواقعي، لكن مسلسل "الباقون" مختلف تماماً، فهو ليس لديه نية لجعل جمهوره يشعر بالراحة. عملياً، كل شخصية هنا بائسة باستمرار، مما يؤدي إلى تجربة مظلمة للغاية، واقعية وخانقة. من الواضح أن هذا النهج لن يناسب أذواق الجميع، لكن التأثير العاطفي الذي قدمه هذا المسلسل في معظم حلقاته نادر للغاية على الشاشة الصغيرة.

تخيل معي، أيها القارئ، أن الحياة كما تعرفها تتوقف فجأة، ليس بانفجار ولا بوباء، بل بغياب غامض يشبه محوًا لا يفسَّر. هنا، في هذا العالم المشظَّى، لا يبحث الناس عن المفقودين بقدر ما يبحثون عن أنفسهم وسط الخراب النفسي الذي خلفته تلك الحادثة. في بلدة صغيرة، يصبح "كيفن غارفي" رمزًا للصراع الإنساني. كرجل شرطة، يُفترض به أن يجلب النظام، لكنه يواجه فوضى وجودية تتجاوز سلطته. عبثية الدور الذي يلعبه تكشف لنا عن فكرة فلسفية متجذرة: ماذا يحدث عندما تنهار الأنظمة التي بنيت عليها هوياتنا؟ كيف يمكن لعقلٍ، يسعى بطبيعته نحو المنطق، أن يواجه حدثًا يرفض التفسير؟

دعونا نتوقف لحظة للحديث عن هيكل المسلسل. أثبت الكاتبان ليندلوف وتوم بيروتا أنهما محترفان في رواية القصص على مدار المواسم الثلاث من خلال ترتيب حلقاتهما وبالتالي قصصهما، بطريقة تحقق أقصى قدر من التأثير الدرامي، وتثير التساؤلات لما سيحدث. كل حلقة لها قصة تثبت أنها مرضية من تلقاء نفسها، لكنها لا تزال مرتبطة لتشكل شيئًا أكثر إثارة للإعجاب بحلول نهاية كل موسم.

الأحداث تُلقي بشخصياتنا في متاهة من الأسئلة. مَنْ هؤلاء الذين اختفوا؟ وأهمّ من ذلك، لماذا بقينا نحن؟ فلسفة العبث لكامو تطل برأسها هنا، تُخبرنا أن الإجابات ليست فقط مستحيلة، بل ربما غير مهمة. في هذا العالم، ليس المهم أن نعرف لماذا حدث الأمر، بل كيف نعيش معه. تمامًا كما تُظهر الشخصيات؛ لوري تنضم إلى "البقايا المذنبين"، في صمتهم إشارة إلى عجز اللغة عن تفسير الألم. أما نورا، فتتحدى عبء الناجين بطريقة مختلفة، تصارع شبح عائلتها الغائبة عبر سعيها المحموم للفهم.

لكن العبث هنا لا يأتي فقط من غياب الإجابات، بل من محاولات البشر اليائسة لإيجاد معنى وسط الفوضى. الغُرَباء الذين يدّعون النبوة، الطوائف التي تنسج قصصها حول الحدث، وحتى الشخصيات الرئيسية التي تخلق حقائقها الصغيرة لتقاوم الانهيار. كل هذه تفاصيل ترسم لوحة مأساوية من البحث الإنساني عن "لماذا" في عالمٍ يجيب بـ "لا شيء".

ووسط كل هذا، يبرز سؤال آخر: هل الفقد في حد ذاته رحلة نحو التحرر؟ "كيفن"، رغم تمزقه، يبدو أحيانًا وكأنه أقرب إلى اليقين من كل الآخرين. في محاولاته للموت والعودة، يتجاوز حدود الفهم العادي ليصل إلى شيء أشبه بالسلام. ربما يذكّرنا هذا بنظرة نيتشه إلى الألم؛ كأنه باب نحو خلقٍ جديد، حياة تخرج من رماد ما خسرناه.

الفقد لا يحتاج إلى تفسير بقدر ما يحتاج إلى تصالح.  إن الحياة، في أعماقها، ليست قصة مفهومة، بل تجربة تُعاش بكل تناقضاتها

PARTAGER