حلّت ساعات الفجر الأولى من نهار الأربعاء (٢٧/١١/٢٠٢٤) معلنة وقف إطلاق النار في لبنان وتسارعت معها دقات قلوب اللبنانيين، ولا سيما النازحين منهم، دقات تحمل في طياتها مشاعر وأحاسيس متناقضة من الفرح والحزن، من الأمل واليأس، من الغضب والطمأنينة، ومن والرجاء والخوف! نعم، الخوف!!
هل يعقل أن يعيش إنسانٌ مدة ستة وستين يوماً وهو يقارع لحظاتٍ من الألم والوجع والتعب والسهر وسط هدير الطائرات وصوت القذائف، وفي الغربة عن منزله وحيّه وقريته وأرض وترابها، ثم تُضمد جراحه فجأة؟ كيف له أن يطوي صفحة ذاكرته وينطلق من جديد وكأنّ شيئًا لم يكن؟
إنّ النفس لا تطيب كما يطيب الجسد وسيل الدموع، وكما يجف سيل الدماء. فقد العديد من الناس أحبتهم، واقتُطعت أجزاء من قلوبهم، فقد الأبُ الأم، والأخُ الأخت، والصديقُ الحبيب، وامتدّت مخالب الموت إلى كل بيتٍ، مخلفةً حرقةً في كل قلب.
تهدّمت البيوت، وها هم أهلها يقفون على ركامها بدمعةٍ وغصة. لقد تركوها على أمل اللقاء ووعدٍ بالعودة، ولكن يا للأسف، عادوا ليجدوا الحبيب والمحبوب قد رحل!
كانت المعاناة كبيرة وتأثيراتها وحشية، فمن الصعب أن تمحى آثارها. لذلك، حتى وإن عاد الناس من أماكن نزوحهم وبغض النظر عن حالة بيوتهم، سواء كانت سالمة أو متضررة أو مهدمة، تراهم يعيشون حالة من الصراع الداخلي. هل انتهت الحرب جديًّا أم ستعود؟ لا يزال العديد يحتفظ بالحقائب والشنط، يركنونها في الزوايا تحسبًا لأي طارئ. ومن خرج عاريًا على حين غفلة، من دون شنط أو حقائب أو حتى أكياس، يعاود ترتيب أفكاره ويحضّر نفسه مجددًا لنزوحٍ محتمل، يريده أكثر أماناً وراحة. فتراه يركز على أشياءٍ احتاجها في غربته. وهنا تقع الحيرة، ماذا أُوضِّب؟ فهل من شعورٍ أصعب؟ هل يوجد شعور أقسى من أن تجمع حياتك وأغلى ما تملكه في قماشة، وأن تجمع ذكرياتك محاولًا أن تختزل الكثير منها حتى تقدر على حملها؟
التخلي عن فكرة أنّ البيت هو الأمن والأمان، وأنه المستقر والحنان، وأنّ الرجوع إليه قد يصير من المحال، هو صراع وحرب من نوع آخر، لا يفهمها إلّا من عاشها ويعيشها!
وأين الشباب من هذا كله؟ الشباب الحالمون، الواعدون، الذين بطلقة واحدة تكسرت آمالهم وتبدّدت أحلامهم، ويعيشون في أسر القلق والضياع. المدارس والجامعات تحاول النهوض وتنفض الغبار عن كاهليها متسلحةً بالعزيمة، ولكن كيف ومتى؟ فهذه الصروح فقدت العديد من معلميها وأبنائها، وفقدت العديد من أحبتها، وها هي الأنات تتردّد في أرجائها…
ويبقى السؤال، هل لا زالت لدينا ثقة في المستقبل في وطننا لبنان؟ هل لا زال لدينا هذا الإيمان الراسخ بأنّ الأجمل قادم، وأن القيامة مؤكدة؟ وهل من السهل أن تعبق سماؤنا بعطر الزنبق والياسمين مجدداً ؟