En | Ar

لبنان والقداسة: منارة علم وصمود

يأتي عيد جميع القديسين هذه السنة وسْط ظروف مؤلمة فُرضت علينا كأن أيادي الشر باتت تمسك وتتربص بأرضنا وحياتنا. ومع ذلك، لا تزال هذه الأرض تنبت وتزهر بالقدّيسين، حيث أن تطويب البطريرك اسطفان الدويهي الاهدني يأتي كبصيص أمل في وقت نحتاج فيه إلى الرجاء والصمود، اضافة إلى تقديس الاخوة المسابكيين الذين قضوا شهداء في مجزرة لعدم تخلّيهم عن إيمانهم. فلنتعلّم منهم قوّة الإيمان والتمسك بالله.

إن طريق البطريرك الدويهي نحو القداسة كان محوره لبنان والعلم، ففي ذلك الحين، لم يكن لبنان في أفضل حالاته، حيث كانت السيطرة العثمانية وطغيان الإقطاع تسودان، وكانت الأمية تسيطر على المجتمع الذي كان يعاني من سياسات الأتراك التعسفية. فقد توجّه الدويهي إلى روما ودرس في المدرسة المارونية ما كان يدرسه طلاب الكهنوت في ذاك الوقت، أي الفصاحة والمنطق والرياضيَّات والفلسفة واللاهوت، فضلا عن اللغات العربيَّة والسريانيَّة، والإيطاليَّة، واللاتينيَّة، واليونانيَّة.عَمِيَتْ عيناه من كثرة الدرس والمطالعة، لكن بأعجوبة من السيدة العذراء، عاد إليه بصره. ثم عاد إلى لبنان مسلّحاً بالعلم، بالرغم من الإغراءات التي قدمت له، ما يدلّ على تمسّكه بأرضه. وعمل على نشر العلم والثقافة اللذين ساهما في تحويل مجتمع جبل لبنان من أُمّي إلى متعلم وفاعل، مما طوَّر الطبقة الوسطى وأرسى الركائز الاجتماعية للبنان الكبير، ومن ثم للبنان الاستقلال. كما حول الأديرة عبر الرهبانيات التي أسسها، من أماكن محصورة بالصلاة إلى مراكز للتنشئة الدينية والتعليم والإستشفاء والرعاية الإجتماعية والإنتاج الإقتصادي. وبالرغم من الضغوطات، تمسّك بالحرية والإستقلالية في وجه الظلم والهيمنة، مما أجبره على مغادرة وادي قنوبين تسع مرّات. إضافة إلى كلّ ذلك، ركّز على أهمية العيش المشترك، إذ لم يؤرخ تاريخ المسيحيين فحسب، بل تحدث في كتبه أيضاً عن تاريخ المسلمين، وكيفية تكامل الطائفتين في محيطهما. لكن لم يقتصر دوره في لبنان ، بل كان لبنان نقطة انطلاقه فقط، حيث عمل في حلب وقبرص، وتفاعل مع المحيط بالرغم من صعوبة مقاومة الإضطهاد. ويجدر بنا التنويه بالدور الذي لعبه في المحافظة على اللغة العربية في وجه سياسة التتريك، إذ اعتبر أن لبنان جزء من محيطه العربي،  ويجب المحافظة على هويته والتواصل والتعاون معه ضمن رؤية مستقبلية هدفها إستقرار لبنان. وبذلك، نستطيع أن نقول أن الطوباوي وضع حجر الأساس للقومية اللبنانية التي تقوم على العلم والإزدهار والعيش المشترك، من خلال عمل مؤسساتي وهوية يتوحد حولها شعب واحد يشكل منارة للجوار. وكل هذا ضمن شكل من أشكال الصمود ومواجهة الظلم.

وفي ظلّ الحرب البشعة والدمار والقتل الذي يتعرّض له لبنان، يأتي تقديس الاخوة المسابكيين (أول ثلاثة قدّيسين علمانيين في الكنيسة المارونية) في 20 تشرين الأول الفائت، كمثال على قوّة الإيمان حتى الشهادة، مما يجعلنا جميعاً مدعوين إلى القداسة دون شرط الانخراط في الكهنوت والرهبانيات. كانت عائلة المسابكي من العائلات المرموقة والثرية في دمشق، وتعود جذورها إلى القرن الخامس عشر على الأقل. وقد خصصت العائلة وقفاً لدعم الفقراء وتعليم الأحداث. إلّا أنه أتى يوم اجتاحت فيه حشود عنيفة الأحياء المسيحية في دمشق، مما أسفر عن مقتل خمسة آلاف مسيحي، ونهب آلاف المحلات التجارية، وحرق الكنائس والمنازل والأديرة. حيث قُتل الإخوة لرفضهم التخلي عن إيمانهم المسيحي. يتكرر مشهد الإخوة كلّ يوم في بلدنا، حيث أصبحت وسائل القتل والإستهتار بحياة العزّل مشهداً يومياً في صراع أهدافه مجهولة، لكن نتائجه تسطّر بإستشهاد من يتمسك بإيمانه وأرضه.

المثالان ينطبقان على وطننا، وما علينا إلاّ التمسك بإيماننا وهويتنا اللّبنانية التي تجمعنا في العيش معاً، آملين أن يتغلب دعاة السلام والإزدهار على الموت والحرب

PARTAGER