En | Ar

الترجمة وأهميتها في العلاقات الدولية

لك أن تتخيل عالمًا بلا مترجمين، لا يجيد أحد فيه لغة الآخر. ألن يكون عالمًا مفككًا تنقطع فيه الشعوب عن التواصل مع بعضها البعض؟ بل ستشعر أن العالم متاهة، تتوه وحدك بين طرقها الكثيرة بلا أي خريطة أو دليل ليرشدك… 

وبلا مترجمين يجمعون بين عوالم مختلفة، لما كانت العلاقات الدولية أن تقوم…فأساس كل علاقة التفاهم والتواصل بين الطرفين، وإلا انعزلت الشعوب وشذّت عن طبيعتها البشرية: الطبيعة الاجتماعية. 

 

تُعتبر مهنة الترجمة من أهم المهن في مجال العلاقات الدولية، فلطالما لعبت دورًا كبيرًا في تسهيل التواصل بين الدول والحكومات عبر التاريخ. وإلى يومنا هذا تبقى هي الوسيلة الأساسية لتأمين التفاهم بين المجتمعات المختلفة، وتسهيل الحوار والتعاون، والمساهمة في التنمية وتعزيز السلام والأمن العالميين. فاللغة هي أداة نعبر بها عن أفكارنا ومطالبنا، وتتميز كل لغة بثقافة خاصة تختلف فيها عن غيرها. إذ تقوم مهنة الترجمة على الربط بين الشعوب لا فقط بين الدول، ولا تقتصر على مجال واحد فحسب، بل تنفتح على جميع مجالات الحياة، منها الطب والقانون والاقتصاد والسياسة، لتضمّ بلاد متباعدة إلى قرية مترابطة يفهم جميع أفرادها اللغة نفسها. 

 

عملية الترجمة أشبه بفك شيفرة …تحطيم حواجز وتذليل قيود فرضتها دول باعتمادها لغة تختلف بها عن غيرها…وبكسر الحواجز نواكب التطور ونتقدم ونتداوى ويصبح عالمنا عالمًا متناغمًا، تكون فيه الدول على توافق ووئام. 

 

يتم الاعتماد على مترجمين في جميع المنظمات الدولية لصياغة الاتفاقيات بين الدول وترجمتها، وتتنوع المستندات في منظمة الأمم المتحدة، فمنها التقارير والإعلانات والمعاهدات…هذا بما يخص الترجمة التحريرية. أما الترجمة الفورية أو الشفهية، فهي عبارة عن نقل المحكي من دون تحضير مسبق، وهو النوع الذي يُعتمد أكثر في المؤتمرات، عندما يُدعى رؤساء الدول والحكومات إلى عقد اجتماعات أو محادثات، أو يجتمع علماء وأطباء من دول مختلفة لمناقشة أبحاث علمية وطبية. 

 

وتتطلب هذه المهنة أن يتّصف صاحبها بالدقة والأمانة والإخلاص، وأن يكون مترجمًا دقيقًا ينقل النص أو الكلام كما هو بلا أي زيادة أو نقصان، وأن يكون مخلصًا وأمينًا على الرسالة التي ينقلها للقارئ أو المستمع، وأن يكون محترفًا في عمله ليفرق بين الفروق اللغوية ويضبط المعنى المقصود والمراد من الكلام لكي ينجح في عمله ويصل حبال التفاهم ويسد الفجوات بين الطرفين. فأحيانًا، يكون للكلمة أكثر من معنى واحد، أو فروق لغوية متفاوتة، لا يمكن أن يفرق بينها إلا المترجم المحترف، الذي لديه خبرة في اللغة وإطلاع كبير عليها وعلى الثقافة العامة، لأن الخطأ في مجال الترجمة حساس، خصوصًا إذا كان ذلك في إطار العلاقات الدولية، فينقلب الهدف من تقريب الأمم والربط فيما بينها إلى تفكيكها أو حتى إشعال فتيل الحرب بينها. 

 

فهل سمعتم من قبل عن خطأ الترجمة الذي أزهق أكثر من 170  ألف روح؟  

تسببت كلمة "موكوساتسو" بأحد أخطر أحداث القرن الماضي، الهجوم النووي الأمريكي على هيروشيما وناغازاكي. 

في السادس والعشرين من شهر تموز عام 1945، أثناء انعقاد مؤتمر بوتسدام (Potsdam Conference)، اجتمعت دول الحلفاء ووجّهت الولايات المتحدة تحذيرًا شديد اللهجة لليابانيين وطالبتهم بالاستسلام غير المشروط. وأكدت في البيان التي أعلنت عنه أن أي رفض أو رد سلبي من قبل اليابان سيتسبب لها بالدمار الشامل والفوري. وجاء هذا الإعلان بعد مضي عشرة أيام فقط على نجاح الولايات المتحدة الأميركية في تجربة أول سلاح نووي. 

 

وأثار هذا الإعلان جدلًا واسعًا في اليابان، فبينما فضّل أغلب قادة الجيش مواصلة الحرب للحصول على اتفاقية سلام عادلة تضمن حفاظ اليابان على سيادته ومستعمراته، اتّجه عدد من أفراد الحكومة للموافقة على الاستسلام وإنهاء الحرب وتجنّب المزيد من الخسائر البشرية. 

 

وردًّا على إعلان مؤتمر بوتسدام، عقد رئيس الوزراء الياباني كانتارو سوزوكي مؤتمرًا صحافيًا استخدم في خلاله كلمة موكوساتسو (mokusatsu)، وهي كلمة يابانية لها معانٍ عديدة مرتبطة بمصطلح الصمت. 

 

واتجهت الصحافة العالمية إلى اعتماد ترجمة خاطئة لكلمة "موكوساتسو"، فبدل اعتماد مصطلح " تتعامل بصمت مع الأمر" أو "تتناقش بصمت"، روّجت الصحف عبارة "لا تستحق التعليق" كترجمة للكلمة، ممّا أشعل غضب الرئيس الأمريكي هاري ترومان.  

فكانت الأوامر واضحة بإلقاء القنبلة النووية على آلاف الأبرياء الذين راحوا ضحية خطأ في الترجمة وتهوّر الأمريكيين. 

 

وكم من حادثة وقعت بسبب مترجمين لم يتحروا الدقة في إيصال المعنى من المتحدث إلى المتلقي، فمهنة الترجمة هي مسؤولية كبيرة لا يجب الاستخفاف بها، لأن حياة الآخرين قد تقف أحيانًا عند ترجمة وصفة طبية خاطئة قد تؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، أو أزمات قانونية تفقد أناس حرياتهم.  

 

فالدقة، ثم الدقة، ثم الدقة يا مترجمين. لأن الترجمة ليست مجرد عملية نقل كلام، فبها نكسر الحواجز ونجعل عالمنا عالمًا متماسكًا مترابطًا لا تفرّقه الاختلافات أو النزاعات. فلنبقَ النور الذي يرشد الدول في ظلام خلافاتها والدليل لكل ضالٍ حتى يصل إلى وجهته…  

PARTAGER