En | Ar

الصوم في الإسلام والمسيحية

تتجلى الروحانية والتضحية في تقاليد الأديان السماوية من خلال ممارسة الصيام هي تجربة روحية تعزز الارتباط بالله وتعكس التفاني والتقرب الروحي. تعتبر الفترة الصائمة فرصة للتأمل والتفكر، حيث يسعى المؤمنون إلى تعزيز الروابط الروحية وتحقيق التطهير الداخلي. بالنظر إلى العبادة الصومية في الأديان، يسعى هذا المقال إلى استكشاف مفهوم الصيام في الأديان السماوية وفهم أسبابه وأهميته وممارسته، مع التركيز على الاختلافات والتشابهات بين الصوم في الإسلام والمسيحية واليهودية . سنسلط الضوء على الأبعاد الروحية والاجتماعية لهذه العبادة العظيمة، وسنسعى لفهم عمق المعاني التي تنطوي عليها هذه العبادة في ضوء تعاليم الأديان السماوية

     بالنسبة للإسلام، يعتبر الصوم واحدًا من أهم العبادات التي تعزز الروحانية وتقرب الإنسان إلى الله، فهو يشكل أحد أركان الدين الأساسية، حيث يُعتبر من بين أهم الطقوس الدينية الممارسة في الإسلام. يتم ممارسة الصوم خلال شهر رمضان المبارك، الذي يعتبر التاسع في التقويم الهجري. في هذا الشهر المبارك، يمتنع المسلمون عن تناول الطعام والشراب، وكذلك عن الجماع من فجر اليوم حتى غروب الشمس تبعا لما جاء به القران الكريم ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ ﴾ البقرة187. من اجل فهم تاريخ هذه الممارسة لا بد من العودة الى العهد المكي، العهد المؤسس للعقائد، حيث كان النبي محمد (ص) بين فترة البعثة النبوية حتى الهجرة النبوية، يركز على تشكيل القاعدة الاولية للدين الاسلامي وترسيخ أصول التوحيد ودعائم القيم الإيمانية، والأخلاقية، في العقول والقلوب، وتطهيرها من رواسب الجاهلية في العقيدة، والفكر، والخلق والسلوك. بعد الهجرة، تحول المسلمين إلى جماعة مميزة ومتماسكة، حيث دعيوا بصفتهم بـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ في هذه المرحلة، تم تشريع الفرائض وتحديد الحدود وتفصيل الأحكام، بما في ذلك فريضة الصوم التي اوجبها الله على المسلمين في القران ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة 183 ومن الحكمة التي تقف وراء فرض الصوم في الإسلام هي تحقيق التقوى و تعزيز العزيمة والإرادة لدى الافراد ، و دفعهم إلى الالتزام بالضوابط  الدينية والحياتية .

     اما في المسيحية، فيُعَدّ الصوم، ولا سيما الصوم الكبير، مرحلة تقوية مهمة. منذ العهد القديم، كان الصوم يمثل علامة توبة وتمسّك شعب الله بالروحانيات وخضوعهم لإرادته. وفي العهد الجديد، استمر الصوم بأهميته في تعزيز الإيمان وتعبير المؤمنين عن تفانيهم في الله واختياره أولوية في حياتهم، قبل الحاجة إلى الطعام والشراب. الصوم الكبير يذكر بصوم يسوع في البرية عندما جربه إبليس، فهو اليوم يمثل فترة الامتناع عن الطعام والشراب لمدة أربعين يومًا، بمعدل أقله اثنتا عشرة ساعة يوميًا. يتم بدء هذه الفترة عادةً من بداية اليوم (12 منتصف الليل) وتستمر حتى انتهاء المدة المحددة. ومع ذلك يلفت النظر وجود  بعض المسيحيين الذين يختارون الصوم لفترات أطول من غيرهم، وذلك حسب التقاليد والتفاني الديني الشخصي... وقد يحدد بعض المسيحيين أو الكنائس فترات صوم خاصة لأمور دينية مهمة أو لخدمة المسيح والإنجيل، كما فعل بولس وبرنابا كما هو مذكور في سفر أعمال الرسل( 14: 23) . بعض الطوائف الكنسية تحدد أيضًا فترة صوم قبل عيد الفصح لمدّة أربعين يومًا، ولكن هذا لا يعتمد على تعليم كتابي، بل على تقاليد كنسية مستوحاة من الكتاب المقدس بعهديه. الهدف من هذا الصوم هو التحضير الروحي قبيل ذكرى موت وقيامة المسيح. تكمن اهمية الصيام لدى المسيحيين بكون الصيام بوابة يعبر من خلالها المؤمن بأيمانه وخضوعه للرب فضلا عن كونه يحرر الانسان من المشاغل والروتين والامور الحياتية (حتى الطعام). والمثال الاعلى المأخوذ هنا هو السيد المسيح نفسه (انجيل متى 4: 2) فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. بالإضافة الى نصوص كتابية اخرى أقرت بأهمية الصوم مثل (سفر يوئيل 2: 12) وَلكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ

   

   في رحلة الصوم، يتلاقى الإسلام والمسيحية، ديانتان سماويتان، في تجربة دينية تبث الحيوية والتجديد. فعلى الرغم من تباين أساليب الصوم بينهما، ينطلق الهدف نحو واحد: التقرب إلى الله وتحقيق التطهير الروحي. يُعبّر الصوم في الإسلام عن إرادة الفرد وتقواه، بينما يمثل في المسيحية بوابة للتأمل والتقديس. في وقت يحافظ المسلمون على صوم رمضان بالامتناع عن الطعام والشراب من الفجر حتى الغروب، يتجلى الصوم في المسيحية على مدى أربعين يومًا كنمط من التفاني والتمسك بالإيمان. هكذا، يرسم الصوم لوحة من الروحانية والتضحية، تشكّل مساحة لقصص الإيمان والتأمل، تعمل على ترسيخ قيم الصبر والتقوى والتفاني في سبيل الله. وفي لبنان، التقى هذا العام صيام المسلمين والمسيحيين، فتأّلق التنوع الجميل الذي يميز وطننا العزيز، آملين ان يكون هذا الصيام مبارك وان تكون هذه الفترة محطة للصمود والتجديد، نحو مستقبل مشرق ينعم فيه الجميع بالسلام والرخاء في ارجاء وطننا الحبيب 

PARTAGER