لبنان ملتقى الحضارات. هو إذاً منارة للتواصل ولا شكّ في أنّه يحتضن أهمّ المراكز التعليميّة للغّات والألسنية ومن بينها مركز الأبحاث والدراسات العربيّة التابع لكليّة اللغات والترجمة في جامعة القدّيس يوسف في بيروت. فهذا المركز ذائع الصيت في مجال تعليم العربيّة كلغة أجنبيّة ورائد في استقطاب الأجانب الراغبين في تعلّم لغة الضاد والغوص في ثقافة العالم العربيّ. "نداء الوطن" التقت مديرة المركز في بيروت، ندى الخوري، فدار معها حوار مشوّق حول نشاطات المركز ومدى تأثّره بأزمة كورونا، بالإضافة الى مكانة اللغة العربيّة حاليّاً وشؤون ثقافيّة وتعليميّة أخرى.
أخبرينا عن مركز الأبحاث والدراسات العربيّة المعروف بـ CREA والتابع لجامعة القدّيس يوسف في بيروت.
أُسّس المركز منذ فترةٍ بعيدة، قرابة السبعينات، انطلاقاً من حاجة الآباء اليسوعيّين الأجانب المقيمين في لبنان آنذاك لتعلّم لغة الضاد والنطق بها، بغية التواصل مع أبناء البلد.
ولهذا الغرض بالذات أُعِدَّت في ذلك الوقت مواد تعليميّة لتلقين أصول العربيّة. لكن المركز ما لبث أن انفتح إثر ذلك ليضمّ جمهوراً أكبر من أطياف وجنسيّات مختلفة حتّى بات يستقطب أشخاصاً من أصقاع العالم كلّه ومن مختلف الأعمار والفئات. وهكذا تحوّل مع مرور الزمن الى قطب أساسيّ لتعليم لغة الضاد والإبحار في عالمها المحبَّب.
تعليم العربية بطرق غير تقليدية
من يهتم بتعلّم العربيّة؟ وهل من إقبال كبير على هذه اللغة من الأجانب؟ وما السبب في ذلك؟
يحبّ عدد كبير من الناس اللغة العربيّة، ولا عجب في ذلك أبداً، فهي لغة جميلة وشيّقة وجذّابة. وينقسم محبّوها والراغبون في تعلّمها إلى 3 فئات. الفئة الأولى مكوّنة من طلّاب التبادل الأجانب الذين يقصدون جامعة القديس يوسف في إطار عقدٍ دراسيّ مبرم بين الأخيرة وجامعتهم. هؤلاء يَفِدون إلى الجامعة بهدف الانخراط في اختصاصات متعدّدة مثل العلوم السياسيّة، أو التاريخ، أو الحقوق، أو سواها، وتكون اللغة العربيّة جزءاً إلزاميّاً من برنامجهم الدراسيّ الذي يقضي بدراستهم الفصحى و/أو العاميّة أو الاثنتين معاً. أمّا الفئة الثانية فهي فئة الأجانب المقيمين في لبنان، من دبلوماسيّين أو أشخاص متزوّجين من لبنانيّين/لبنانيّات، ويفضّل قسم كبير من هؤلاء تعلّم "اللغة المحكيّة" أو "العاميّة" اللبنانيّة كونها تسهّل أمورهم اليوميّة وتسمح لهم بالتواصل مع الآخرين عبر تبديد العقبات اللغويّة وتعلّم العبارات الرائجة وأدبيّات التواصل. أما الفئة الثالثة فتتألف من أشخاص أو طلّاب أجانب يسكنون خارج لبنان ويقصدونه إما للسياحة أو لإقامة ثقافيّة في ربوعه. وغالباً ما يكون هدفهم التعرّف الى معالم البلد وعاداته وتقاليده عبر السكن فيه وإجادة لغة أهله. وقد يمكث هؤلاء في لبنان مدّة شهر أو ثلاثة أشهر أو ربّما أكثر.
هل تأثّر المـــــــــــــركز بأوضاع كورونا الحاليّة وانعكاساته السلبيّة خصوصاً مع لجم حركة الطيران وتخفيف السفر حول العالم لاحتواء الفيروس؟
لا شكّ في أنّ المركز تأثّر بالجائحة تماماً كما تأثّر سائر القطاعات والمؤسّسات. لكنّنا في جامعة القديس يوسف لا نجيد الاستسلام أو التراجع أمام الصعوبات، لذا رفضنا أن تكون هذه الجائحة عائقاً يحول دون مواصلة مهامنا. لقد حوّلناها الى مصدر قوّة وصمود وتحدّينا الواقع المرير باعتمادنا أسلحة غير تقليديّة عبر انفتاحنا على وسائل التواصل والتقنيّات الحديثة لتأمين الدروس "أونلاين" أو عبر الانترنت. وهكذا استطاع كلّ من يرغب في تعلّم العربيّة ويعجز عن التواجد في لبنان أن يكتسب هذه اللغة من مكان سكنه أو بلده، من دون أن يُضطرّ للانتقال الى لبنان. لدينا اليوم عدد لا يستهان به من الصفوف المختلفة التي تستعين بتطبيقَي "زووم" أو "تيمز" أو غيرهما لتأمين استمراريّة التعليم على نحو تفاعلي. أمّا طلّابنا فمنتشرون في أنحاء مختلفة، انطلاقاً من لبنان ووصولاً إلى أوروبا وأميركا... إذاً لقد دفعت بنا أزمة كورونا الصحيّة الى تحدّي أنفسنا ومواجهة العالم بواقعه الجديد بإرادة صلبة ومن دون تخاذل.
ماذا عن موادّ التعليم المعتمدة في المركز؟ هل تواكب العصر الحديث؟
انطلقت دروس المركز في بداياتها مع جيل أوّل من المواد التعليميّة التي تستند إلى الوسائل السمعية البصرية وقد حملت آنذاك عنوان "من الخليج الى المحيط"، فدام استعمالها فترةً طويلة وعرفت نجاحاً ورواجاً كبيرين إلى أن جرى تحديثها مع ابتكار الجيل الثاني الذي دمج التقنيات الرقمية إلى الوسائل السمعية البصرية وقد حملت هذه المواد التعليمية عنوان "توابل وحرير" و"شو هالحكي" لتلقين الفصحى والعاميّة. أمّا الآن فنحن وسطَ ورشة عمل دؤوبة نعكف من خلالها على إعداد جيل ثالث من هذه المواد يواكب زمننا الحاضر ومقتضيات التعليم التفاعلي عن بعد ويسعى إلى تعليم العربيّة كلغة أجنبيّة بحلّة عصريّة ومتجدّدة.
هل من نشاطات خاصّة بالطــــــلّاب الأجانب؟
طبعاً، فنحن نعتمد نشاطاتٍ كثيرة لمواكبة الطلّاب الأجانب في المركز، لأنّ تعلّم العربيّة لا يقتصر على اكتساب المهارات اللغويّة وحسب بل يشمل الانغماس في الثقافة أيضاً.
من هذا المنطلق، نرافق هؤلاء الطلّاب في زيارات سياحيّة وثقافيّة إلى ربوع لبنان يطّلعون من خلالها على أبرز معالمه ويتعرّفون إلى ثقافة أهله ومطبخه، وكذلك عاداته وتقاليده. كنّا نستقبل في الأيام الطبيعيّة، أي قبل جائحة كورونا، ما يقارب 160 طالباً خلال كلّ فصل دراسيّ، لذا نتمنّى أن تعود الأمور إلى نصابها في القريب العاجل.
التعرف الى ثقافة البلد وعاداته برحلات سياحية
هل تولي الجامعةُ اليسوعيّة اللغةَ العربيّة أهميّةً كما تهتم باللغة الفرنسيّة؟
بكل تأكيد. وخير دليل على ذلك هو وجود وحدة تعليميّة بعنوان «اللغة العربيّة وثقافتها» يُلزَم كل طلّاب الجامعة بدراستها.
والوحدة هذه تُلَقَّن في مختلف كليّات الجامعة وأحرامها، من خلال الفريق التعليميّ التابع لهذا المركز وبالتعاون مع معهد الآداب الشرقيّة. وهي مقسَّمة إلى 3 مواد يختار الطالب ما يحلو له منها، ألا وهي «اللغة العربيّة في الصحافة والإعلان»، «اللغة العربيّة في الفن التشـــــكيليّ»، و»اللغة العربيّة في القصيدة الأغنيــة والرواية المعاصرة».
هل تعتبرين أنّ العربية فقدت بريقهــــــــــــــا أم حافظت على أهميّتها؟
كانت اللغة العربيّة ولم تزل تحافظ على بريقها ورونقها وأهميّتها، فهي من اللغات الأساسيّة في منظّمة الأمم المتّحدة، وهي لغة بالغة في العمق وشديدة الثراء. أمّا اللافت حاليّاً فهو التهافت المتزايد يوماً بعد يوم على تعلّم «العاميّة» اللبنانيّة، وهذا أمر لم نعهده سابقاً بهذه الكثافة. لذا يدأب المركز على تلبية الطلب المطّرد على العاميّة والفصحى على حدّ سواء.