"من أنت؟" سؤال نوجهه إلى غيرنا ويوجه إلينا مئات المرات في حياتنا، ونظن أننا نعلم الجواب. ولكن الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط الذي نعرفه كلنا ونضرب به المثل لن يقبل جوابنا السريع مهما كان بدون أن ننظر فيه بتمعن. كلنا نعرف سقراط، ولكن لا أحد منا قرأ كتبه، وهذا لأنه لم يكتب أي كتب في حياته. ولكنه على الرغم من ذلك، استطاع أن يعلم البشرية كثيرا فكان يسأل أشخاصاً عاصرهم في حياته عن أشياء تبدو لهم بديهية ويحرجهم بأسئلة لم يفكروا فيها ويدّعي أنه لا يعرف شيئا. ولكن كيف كان ذلك؟
طبعا، لم يبتكر سقراط هذه المقولة، فهي كانت منقوشة على أبواب أحد أهم المعابد في عصره، معبد دلفي، الذي كان يقصده حتى الملوك ليأخذوا نصائح لحياتهم اليومية من سيدة سكنت فيه. وعلى أية حال، فكان معاصرو سقراط كلهم على دراية بهذه المقولة، إلّا أن قوّته كانت تكمن في تنفيذه للمقولة
وهنا نبدأ بحكاية بسيطة حيث سأل أحدهم عرّافة عن هوية أكثر الناس حكمة في المدينة. وكان الجواب الذي أدهش سقراط أنه هو الأكثر حكمة. ولكن سقراط يدرك أنه هو شخصيا لا يعرف شيئا، وهنا بدا واضحا أمام سقراط ما هي الحكمة التي تميزه عن غيره--وهي معرفته واعترافه أنه لا يعرف شيئا! ولكن، كيف أدرك أنه لا يعرف شيئا بينما وقع باقي حكماء المدينة في فخ اعتبار أنفسهم حكماء؟ السبب، أحبّائي، أن سقراط حاول أن يعرف نفسه.
وهنا صارت رسالة سقراط أن يكون مندوب جملة اعرف نفسك، وأن يعلّم الناس كيف يعرفوا أنفسهم. ويخبرنا سقراط أن معرفة النفس ضرورية، فهي تساعد المرء على ادراك حدوده وقواه ، ومن هنا ندرك ما يجب علينا فعله غيرنا لنعود بالفائدة على غيرنا. ويقوم سقراط بهذا من خلال طرح أسئلة وحسب . فمعلمنا سقراط لا يدعي علما اطلاقا. على العكس فهو يسأل أسئلة تبدو في شدة البداهة!
يسأل سقراط مثلا: ما هي العدالة؟ ومتى أجاب المستجوب بتعريف، يسأل سقراط عن سبيل وصولنا لهذا التعريف. ومن هنا، يشرع سائلا عن حالات لا ينطبق عليها هذا التعريف، فيستعمل أمثلة تمثل حالات نادرة جدا، كأن يكون صديق ترك معنا سلاحا له، ولكنه فقد قواه العقلية. فهل من الخير إعادة السلاح إلى من قد يسيء استخدامه؟ الهدف ليس الأمثلة، بل الهدف هو اختبار ما نحسبه يسري على كل الأحوال، فإذا فشل في أمر واحد، الأصح أن نعترف أن تعريفنا لا يسري على كل الأحوال. ثم يترك سقراط للمستجوَب ليقدم له تعريف آخر، فآخر، ولا يقدم شيئا من عنده.
وليس بالضرورة أن تصل المحاورة إلى حل. فالهدف من كل هذا، أن ينظر المرء في داخله، ومتى ابتعد المرء عن الخطأ، تقدّم خطوة ولو صغيرة تجاه الحقيقة. وهذا ما يريده سقراط منا أن نتابعه بمفردنا. وقد تبدو هذه الطريقة ساذجة، ولكنها تساعدنا على أن نعرف أنفسنا، من ما سلمنا به، وما نريده، وما نحتاج أن نعرفه، والأهم من هذا كله، أن ندرك أننا لا نعرف شيئا.
علينا أن نستعمل هذه الطريقة لنستوجب أنفسنا، إسوة بما بدأه سقراط. فأهم ما علمه سقراط كان بلعبه دور المستجوب، حتى نستطيع نحن لاحقا أن نتعلم كيف نعرف أنفسنا. فقبل أن يسعى المرء إلى احراز هدف خارجي وثمرة تفكير وأفعال، عليه أولا أن يتأكد أن البذور مزروعة بشكل جيد في ذاته!