شارك طالبا الماستر في العلاقات الإسلاميّة المسيحية (معهد الرداسات الإسلامية والمسيحية، كليّة العلوم الدينية) في جامعة القدّيس يوسف في بيروت وسيم السخلة وناتالي أغوبيان في المدرسة الشتوية المنبثقة عن مشروع Prevention and Interaction in the trans-Mediterranean Area وهو مشروع إيطالي مدعوم من وزارة التعليم الايطالية بالاشتراك مع جامعات من دول في منطقة المتوسط. واستقبلت جامعة إنسوبريا الطلاّب المشاركين من مختلف الجامعات في لقاء تمحور حول إدارة التنوّع والتعددية من نماذج إيطالية وخبرات عملية.
الطالب وسيم السخلة نقل إلينا اختباره الشخصي من خلال هذا النص:
"التنوّع يؤسس لمدُن مستدامة" هذه الكلمات هي خلاصة ما اختبرتهُ في المدرسة الشتوية PriMED School حول العولمة والأديان في المدن المتعددة الثقافات، والتي عقدت في جامعة Uninsubria في كومو وتخللتها زيارات وجولات ميدانية في مدينتي كومو وميلانو الإيطاليتين، وذلك بين 11-15 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
كان المشاركون قد جاؤوا بحماسة من دول مختلفة ومتنوّعة حول المتوسط، لم يكن أحد من المشاركين يشبه الآخر سواء من حيث اختصاصاتهم الدراسية أو حتى أماكن سكنهم وانتماءاتهم الدينية والثقافية، لقد بدا تحديًا كبيرًا من البداية، هناك لغات مختلفة علينا التحدّث بها، قد تكون الانكليزية مفهومة من أغلب المشاركين ولكن ليس جميعهم، لم نكن نعرف أن هذا التحدي سيفتح الباب لمدرسة موازية في التبادل الثقافي والحضاري من خلال اللغة إضافة إلى موضوع المدرسة الأساس الذي جئنا لأجله.
لقد فاجأتنا الجامعة حين وصلنا، فإذا بنا أمام صرح تاريخي عتيق، أعيد تحديثه ليكون جامعة جميلة ومختلفة، يمكنك في أروقتها تخيّل ملايين النقاشات والأحاديث التي دارت وتدور هنا منذ قرون، وكانت الكنيسة الملتصقة بالجامعة أو لنقل الجامعة الملتصقة بالكنيسة موغلة بالقدم، دخلناها فكانت مظلمة إلا أننا سرعان ما اعتدنا الظلام وبدأنا ندرك أشعّة النور النازلة من فتحات في السقف والأطراف، كانت التفاصيل مذهلة لكثرتها، ولم يكن هناك سؤال واحد بل عشرات الأسئلة حيث تكفّل زملاؤنا الإيطاليين الإجابة عن بعضها.
الساعات الأولى حملت الأسئلة نفسها بالنسبة للجميع: من أين جئتم؟ وماذا تعملون؟ وكيف تدرسون هذه؟ ولماذا أنتم هنا؟
بدأ اليوم الأول بعروض عن التاريخ الايطالي وتشكل الدولة الحديثة وكيفية إدارة التنوع فيها. حاول المقدمون استيعاب كلّ أسئلتنا، فلأول مرّة نختبر فكرة أن الحكومة والبرلمان يعقدان اتفاقيات مع الجماعات الدينية ضمن البلد لضمان حقوقهم وحرياتهم ضمن القانون والدستور، وفهم الخصوصيات، الدعم والحماية.
توزعنا على مجموعات مختلفة عاودت المسير نحو المدينة لزيارة مراكز متنوعة في طبيعتها ووظائفها، كان من نصيبي زيارة مقرّ كاريتاس في كومو. لم يخطر ببالنا في وسط المدينة القديمة أن بابًا سيُفتح على مركز كبير يضم عشرات القاعات وساحة متوسطة فيها خيمة كبيرة معدّة للاجئين. حدّثنا منسق المركز عن تاريخ المركز وطبيعته والتحديات الكبيرة التي تواجهها الحكومة في استقبال اللاجئين وكيف يحاولون حفظ خصوصياتهم الدينية، وتوفير السبل التعليمية والمعاشيّة لهم، ثم كانت جولة في الأروقة ضمن المركز للتعرّف بشكل أقرب على الخدمات التي يقدمونها. كما قابلنا صحافيين يحاولون تغيير مسار التدوين في الصحف والمجالات المحلية حول قضايا اللجوء للحدّ من التطرف الذي تلجأ إليه بعض الصحف في حديثها على مجموعات النازحين، واستمعنا لشهادات من لاجئين وصلوا حديثًا من السلفادور عن ما عانوه قبل وأثناء رحلة الوصول والتحديات التي تواجه حياتهم الجديدة مع أطفالهم.
بحيرة كومو كانت محطتنا التالية مع السائق اللطيف الذي أهديناهُ تفاحة لنكتشف أيضًا أنه مهاجر قديم في المدينة فراح يحكي لنا قصته المختلفة. أخذنا الصور التذكارية في البحيرة وانطلقنا نحو المركز الذي ستجتمع فيه باقي المجموعات وهو أيضًا مخصص للاجئين الذين يمارسون أيضًا اعمالهم انطلاقًا من هنا متنوعين في الأديان والاعراق والجنسيات والثقافات، هو أشبه بمركز مجتمعي تناولنا فيه العشاء الذي أعدّه المهاجرون، فتنوعت الأطباق بين شرقية وغربية، بدأنا بصلاة ودعاء جماعي لطيف.
في اليوم الثاني خصص لإدارة التنوع في مدن مختلفة، ولاحظنا اختلاف طريقة هذه الإدارة واتفاقها على الهدف وهو المزيد من الحريات الدينية في أطر قانونية تشجع الجميع على ممارسة طقوسهم بحرية، ولكن لا يخفى أن التحديات وفي مقدمتها الهجرات المتتالية كانت أيضًا عوامل جديدة على البلديات تُحسن التعامل معها من جديد، وكأن العقد الإجتماعي في المدينة يتغير مع تغيّر سكانها الجدد.
الاماكن الدينية والمساحات العامة كانت أيضًا موضوعًا لنقاش طويل، وكيفية تحويلها وتطويرها لتحتضن الجميع في المطارات مثلًا والاماكن العامة، واطلعنا على تجربة مدينة تورينو. في هذا المجال.
تضمنت الفقرات المسائية عروضًا وأفلامًا عن التطرف وغيرها، كما كانت مساحات لطيفة لتبادل الثقافات والمعلومات، ولم تكن اللقاءات المسائية بين المشاركين أقل غنى من المحاضرات الصباحية التي كانت مملة أحيانًا وامتدت لأوقات طويلة.
ذهبنا في جولة في مدينة ميلانو، فزرنا مسجدًا محليًا ومراكز دينية لأقليات مختلفة، كما حاولنا تفكيك بعض لوحات الغرافيتي ذات الصلة بموضوع المدرسة في الشوراع والجسور. زرنا المدرسة المفتوحة بالحديقة واطلعنا على آلية ادارتها وتنظيمها، وزرنا كنائس قديمة، ومراكز تقوم باستضافة حوارات اسلامية مسيحية بشكل مستمر، كما تقوم بفعاليات وصلوات مشتركة عدّة مرات في كل سنة.
وكنّا في جولة حرة في ميلانو حيث شاهدنا المدينة المذهلة عن قُرب، وكأنها متحف مفتوح بالفعل، زرنا الكاتدرائية الرئيسية والمسرح والأسواق وعدنا إلى العشاء على بحيرة كومو الجميلة.
في اليوم الأخير معًا رجعنا للمحاضرات في الجامعة، ونقاش مجموعات العمل كما تعرفنا على تجارب مدن جديدة كازابلانكا وبيروت وتونس وباريس، وكالعادة دومًا كانت النقاشات هي الغنى الحقيقي للعروض والتي لم تتوقف حتى في طريق الذهاب والعودة للنزل حيث اختتمنا المدرسة بكلمات ملهمة لكل المشاركين وبتوزيع الشهادات وتكريم المحاضرين الذين جاؤوا من دول متعددة أيضًا وكانوا مشاركين معنا في عيش التجربة بكاملها.
لا شك أن التنوع وحدهُ هو ما يعطي المدن أهميتها وتطورها ويصنع مستقبلها، ولقد شاهدنا عن قرب كيف يغيّر التنوع ويثمّن كل شيء بالمدن بدءًا من العمارة وليس انتهاءًا بالعلاقات المحلية كأفراد وجماعات.
لقد كانت التجربة مميزة، كنّا بحاجة وقت أطول، كلّ لحظة كانت لحظة تبادل وليس برنامج المحاضرات فقط. كم نحنُ بحاجة لمثل هذه البرامج لنتعرف على الآخر ونعرّفهُ بأنفسنا.
في ختام هذه التجربة أتمنى لو أنها تتاح لكل الناس ولكلّ الطلاب في بلادنا ليعرفوا جزءًا من العالم وليعرفهم العالم بشكل أفضل.
وسيم السخلة - جامعة القديس يوسف في بيروت
ميلانو / ايطاليا 2019