لمناسبة افتتاح السنة الأكاديميّة 2019-2020، ألقى الوزير السابق دميانوس قطّار بدعوة من كليّة العلوم الدينيّة في جامعة القدّيس يوسف، محاضرة عنوانها "المال والحياة الاقتصاديّة"، في قاعة بيار أبو خاطر في حرم العلوم الإنسانيّة طريق الشام، بحضور رئيس الجامعة البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ وعميد الكليّة الأب مارك شيشليك اليسوعيّ وحشد من الشخصيات الدينيّة والأكاديميّة والسياسيّة والطلاّب.
بعد كلمة ترحيبيّة للأب شيشليك، استهل قطّار محاضرته بالقول:" في فرنسا ازدادت في الـ2019 القدرة الشرائية لدى المواطنين. فلماذا إذا كل هذا الغضب الذي رأيناه تحت عنوان "السترات الصفراء"؟ يكفي أن ننظر إلى العشر ثروات الفرنسية الأولى فنلاحظ أنه من 97 الى 2017 ازدادت من 22 مليار الى 240 مليار. ماهي الإشكالية التي نعالجها اذا عندما نتحدث عن المال والقدرة الشرائية ومفهوم الحياة الاقتصاديّة؟ الاشكال الأول يتعلق بالتفسير: هل يمكننا دراسة موقع المال في حياتنا من خلال الكميّة والنوعيّة والقيمة، أي من خلال الأرقام والمفاهيم الإقتصاديّة كالنمو، من دون الاستعانة بالفلسفة واللاهوت مثلا؟ يمكن لمفهوم كالنمو أن يحمل أبعادًا طبيعيّة ولاهوتيّة، ولكنه لا يكفي لفهم الإقتصاد، لكن التنمية، التي هي فعل إرادوي إنساني يهدف إلى تقليص الفوارق الإجتماعيّة بين الناس، هي المعيار لفهم موقع المال في حياة البشر".
وتابع :"عندما ندرس النقد هل نعتبره ضروريا لكي يستطيع الإنسان الإستمرار بالحياة أو لكي يحصل على موقعًا اجتماعيًّا عبر الاستهلاك الذي لا نهاية له؟ لكي يستمرّ المرء بالعيش لا حاجة له لتكديس المال لكنه بحاجة لأن يفعل ذلك إذا كان يريد أن تكون له حياة اجتماعيّة. هذه المعادلة تحيلنا إلى مفهوم المضاربة، أي تطوير الربح عبر المراهنة، مما خلق انفصالا ما بين الأسر والشركات والدولة والمصارف. التكتل العالمي الحاصل بين مختلف الأجهزة الماليّة والمصرفيّة يغطي الحاجات بشكل كبير لكن السؤال يبقى حول غاية طرح أو عدم طرح الكتلة النقديّة لتلبية تلك الحاجات".
وأضاف قطار :"كيف نستطيع معالجة هذا الاحتكار للمال أو هذا الحجب للمال عن الحياة الاقتصاديّة؟ لجأ الإنسان منذ 100 سنة الى مفهوم تقوية الدولة التي أُريد لها أن تكون الحاضنة للتوازن وتقليص الفروقات. كما اعتبر بعض الفلاسفة أن المال هو وسيلة لتنظيم التبادل وليس غاية بحدّ ذاته. هاتان النظرتان أدّتا إلى صعود الدولة الضرائبية. حاولت الدولة أن تكون عادلة قدر الإمكان بين قوة المال وضعف المجموعات. لكن وبالرغم من وصول بعض الدول كفرنسا إلى ضريبة على الدخل توازي 50%، تعرضت إلى نكستين: نمو القدرات المالية ونمو عدد السكان، مما أدى إلى تراجع قدرة الدولة على التوفيق بين النمو والتنميّة. واضحت ديناميكيات السلطة في يد شركات التأمين العالمية والكارتيلات التي خطفت من قوة الدولة. وتسبب تراكم الثروات بيد تلك السلطات إلى ازمة بسبب فقدان تمويل الإقتصاد الإجتماعي. الدولة تعرضت بالضغط المالي والسكاني والسياسي الهادف الى التفكك. الثورة التكنولوجية والعولمة المالية وربط الإقتصاديات الوطنية بالإقتصاد العالمي أدت الى اضعاف الدولة وازدهار الإقتصاد الجانبي او الرمادي. مشكلة هذا الإقتصاد، وبالإضافة لاحتضانه اعمالاً غير شرعية، انه لا يمكن تحفيق تنمية من خلاله."
واعتبر أنه في لبنان "سلّم القيم المتطور في الستينات والسبعينات تم القضاء عليه في الحرب ومن قبل العولمة. وانعكس ذلك على الحياة الإقتصادية، إذ يظن اللبنانيون انهم يعيشون في أعجوبة اقتصاديّة، بينما هم في الحقيقة يغرقون كل يوم أكثر فأكثر في الفقر والبطالة وفقدان الأمل. النمو ضعيف والتنمية غائبة والأهم من ذلك وجود الطبقة السياسيّة التي تتمسك بالسلطة وتنفق عبر الاستدانة. وإذا استمرّ هذا النموذج، ستضعف الدولة أكثر خصوصّا أن لبنان يتأثر بالخضّات العالميّة. يضاف إلى ذلك عدم الثقة بسبب الفساد وغياب فرص العمل بسبب الاحتكار وعدم المبالاة فيما يختصّ بالحوكمة العامة".
وأردف: "ما يخيفني في لبنان هو التحوّل أكثر فأكثر نحو الاقتصاد الرديف، أي إلى الحياة الهشّة التي يحكمها البؤس. لذلك في كليّة العلوم الدينيّة لا يمكننا إلاّ أن نرفع الصوت للحدّ من الفوارق الاجتماعيّة واستعمال الكتل النقديّة الموجودة للتننمية. ويحد من تلك الفوارق عبر الأنظمة التعليميّة والضرائبيّة والسياسيّة. إذا كان التعليم يركّز على حبّ المال والاستهلاك وحبّ الظهور، أي الحاجات الاجتماعية فقط، والضريبة لا تسعى إلى الحدّ من الفوارق، والنظام السياسي سيظل قبلي وعشائري، نكون أمام تحدّيات جمّة لا يختصرها البعد المالي. كيف نريد أن نعيش في المجتمع وكيف نريد ان نَحكم ونُحكم فيه؟ إذا اعتبرنا ان لبنان هو ملتقى حقبات تاريخيّة وموجات ثقافيّة وترددات اقتصاديّة، في جغرافية ثابتة والحمدالله، هذا اللبنان الذي ينتقده البعض قد أعطى لأبنائه نعمة التعدديّة وحرية الايمان وراكم المعرفة في مكوناته الإجتماعيّة عبر تطور القرى والمدن، وأبرز أفضلية الحوار في كل مراحل صراع القوى الفكرية والعقائديّة".
وختم قطّار محاضرته عبر طرح أفكار اعتبرها أساسيّة "هل نستطيع عبر الخبرات الإيمانيّة المتعدّدة الدعوة عبر هذا المنبر الى البحث والنقاش حول ما نريده من العدالة الاجتماعيّة في لبنان؟ ما هو دور الدولة وما هو دور المجتمع المدنيّ؟ هل نستطيع أن نحدّد ما نريده من المساواة الاقتصاديّة؟ هل المطالبة من على هذا المنبر بشرعة أخلاقيّة يقسم عليها من يدير الشأن العام هي مطلب خارج عن المألوف؟ هل الإصرار على استحداث قانون يشجع ويحمي مؤسّسات ومبادرات الاقتصاد الاجتماعي التضامني مبالغ فيه؟ هل نجرؤ على مطالبة المؤسّسات بتقليص الاقتصاد الرديف إلى ما دون الـ15%؟ في أزمة غير مسبوقة لعجز الدولة وضياع الخيارات هل نحن أمام استحقاقات فكريّة تدفعنا نحو تحديد أولويّة جديدة للاقتصاد اللبناني وصياغة وثيقة اقتصاديّة أخلاقيّة، أعمق من مؤتمر دولي وأبعد من مخاطر الدين العام؟ هل نستطيع أخذ كل الاختبارات الإيمانيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ونحوّل المواقف المتسلّطة وشغف التملّك إلى قناعات جديدة من أجل إنتاج أقوى وتشاركي واستهلاك أفضل يحمي الدخل، كي نستطيع الوصول إلى حالة اقتصاديّة مليئة بالطموح والمشاركة والفرح؟ إنها الدعوة إلى الإحساس بالآخر على مستوى القيادات والمؤثرين والمؤسّسات والجمعيات والأشخاص".
ألبوم الصور