غصّت قاعة جوزف زعرور في معهد الآداب الشرقيةK حرم العلوم الإنسانية في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، بأصدقاء وطلاّب الدكتور إفرام البعلبكي، وقد جاؤوا خصيصًا ليستمعوا إلى أستاذهم وصديقهم ويقفوا على رأيه من خلال محاضرة حملت عنوان:"الثقافة الفلسفيّة في فكرنا اللبنانيّ الحديث".
بدأت المحاضرة بتقديم من الدكتور سهيل سليمان الذي استهلّ كلامه بالقول: "ما دخلتِ السياسةُ شيئًا إلاّ أفْسدتْه، وما دخلتِ الفلسفةُ شيئًا إلاّ أصْلحتْه؛ فيا ذُوي العقولِ تخيَّروا".
وتابع قائلاً: " وما دُمنا في رياض الفلسفة ومظاهرِها الفكريّة اللبنانيّة، فما رأيكُم في الفنِّ الراقي الذي – رُغْم عصْرنتِه وحداثته – باتَ تُراثًا حتّى لو لم ينْتمِ إلى ماضٍ؟ ألَيس الحاضرُ أساسًا للمُستقبَل الذي تَنشُدُه الفلسفةُ دليلاً على وجود "العقل"؟ فلنتعمَّقْ في نتاج العقل الراقي ليَتراءى لنا عَبْرَه "الله"!" واختار سليمان شواهده من الفنّ الرحبانيّ-الفيروزيّ.
وأضاف: "هذا ليس فلسفةً بل تفلسُفٌ ذو نكهةٍ أدبيّةٍ جَماليّة؛ تزداد جمالاً في حضرة الأستاذ الدكتور إفرام البعلبكيّ. صدر له أخيرًا كتابَان هما: لُمَعٌ من فِكر معلِّم (2017)، والمنابر(2019). هو مُتْقِنٌ "الكاراتِ" المتعدِّدة المؤتلِفة: معلّمُ فلسفة، وأدبٍ عربيٍّ، وعِلم اجتماع، وإسلاميّات، وتربيةٍ، وتقويمٍ تربويّ، ومُشرف على الكثير من الرسائل والأُطروحات الجامعيّة، وصِحافيٌّ، وكاتبٌ، وناقدٌ منهجيّ. هوايتُه الفطريّةُ الخِطابة ارتجالاً؛ يصحُّ القول فيه فيها ما قيل في زيادِ بنِ أبيهِ: ما سمعتُ خطيبًا تكلَّم على منبرٍ وأطال إلاّ تمنَّيتُ أن يسكتَ لكَيلا يغلط، إلاّ زيادًا كلَّما أطالَ أجادَ؛ هذا هو إفرام بن البعلبكي. يقول: "ثَقِفتُ السُّريانيّة والعربيّة والبيزنطيّة، وكتبتُ بالعربيّة والإسبانيّة" (المنابر، 26)، و"أُميِّزُ بين القوميّة والثقافة والدِّين والحضارة" (المنابر، 25). وهو عربيٌّ، عِلميٌّ، عَلمانيٌّ وإنْ كان فترةً تلميذَ لاهوت"ٍ.
من جهته قال الدكتور البعلبكي إن "عنوان المحاضرة بسيط في اللفتة الأولى، غير أنه تندرج تحته عناوين كثيرة وأسئلة متشعّبة قد نجيب عن بعضها ونعالج بعضها، إذا حصرنا الكلام في الإجابة عن سؤالين رئيسيين: هل هناك فلسفة لبنانيّة؟ وأقصد هل هناك فلاسفة لبنانيّون؟ ثم هل هناك ثقافة فلسفيّة في لبنان؟"
وخلال المحاضرة قدّم الدكتور البعلبكي رأيه الخاصّ في الفلسفة فقال: "الفلسفة ليست مجرّد نظريّة نأتي بها كيفما أتفق فنقول فلسفةَ فلان السياسيّة ونحن نقصد عقيدته الحزبيّة، أو فلسفة فلان الأخلاقيّة أو الاقتصاديّة ونحن نقصد عرضه منظومته القيميّة أو رأيه في الاقتصاد، أو نقول فلسفةَ فلان الدينيّة ونحن نقصد تخرّصاته وادعاآته اللاهوتانيّة"، وتابع يقول: "الفلسفة عندي منهج عقلانيّ علميّ في البحث عن الحقيقة".
وفي مفهوم الثقافة اعتبر أن "الثقافة تعني الحذق، والذكاء، والفطنة المبنيّة على المعرفة. كما تعني تربيةً وتنميةً، وتهذيب البدن. وتعني ما يتّصف به الإنسان المتعلّم من ذوق وحسّ نقديّ وحكم صحيح. العلم شرط ضروريّ في الثقافة لكنّه غير كافٍ، إنّما يطلق لفظ الثقافة على المزايا التي أكسبنا إيّاها العلم حتى جعل أحكامنا صادقةً وعواطفنا مهذّبةً". وتابع يقول: "يتضح أن الثقافة اطّلاع وممارسة في آن معًا. إنها الحكمة العمليّة التي يسعى إليها محبّ الحكمة. أي إنها العلم المعاش، فالعلم من دون ممارسة ما تعلمانه ليس بثقافة بل هو مجرّد تخزين يمكن أن تحقّقه أيّ مسجلة أو أيّ ذاكرة آليّة ممغنطة. وهكذا تكون الثقافة الفلسفيّة اطّلاعًا على التيارات الفكريّة الناقدة وممارسةً عقلانيةَ واعية في الحياة الحضاريّة".
وختم بالقول: "الفيلسوف لا يُصنع. إنه ينبت وينمو تلقائيًا في أجواء عقلانيّة علميّة معاشة. غير أنّ هذه الأجواء لا تُرسم بالمصادفة أو بخلق الجنّ بل تحضّر بسياسة تربويّة تساعد الناشىء على اكتشاف ذاته العاقلة، لا على اكتشاف عشيرته، وتحفّزه على تحقيق ذاته لا على تحقيق مصالح القبيلة. ثم ترسم له سياسة تعليميّة لا تعتمد التلقين والدغماتيّة نهجًا، ولا تسويق الأفكار المعلّبة مضمونًا. إن هيكلة العقل بالعمليّة التجريبيّة وبإنماء روح التحليل والتعليل والنقد لإصدار أحكام موضوعيّة، ذاك هو المسار، وتلك هي الطريق إلى أمّةٍ مثّقفة ثقافة فلسفيّة أو مثّقفة وكفى".
وفي الختام أجاب البعلبكي على أسئلة الحضور.