لا يمكن أي مواطن عاش الحرب " المسماة" أهلية في لبنان بين 1975 - 1990 – ولا سيما من ترعرع فيها وتقاذفته حمم تلك الحرب في ريعان شبابه – أن ينسى أننا نحيي هذا العام الذكرى الأربعين لتلك الحرب اللعينة.
اللافت ان اللبنانيين يبرعون عموما بالهروب الى الأمام أو بالتلهي أو اللهو عما هم فيه من مصائب وما يواجهونه من صعوبات، أو هم يختارون الهجرة – وهي من فصيل الهروب إلى الأمام هي الأخرى.
لكن أمران لا يمكن أن نهرب منهما، لا إلى الأمام ولا من خلال التجاهل والتلهي واللهو. الأمر الأول هو أن من عاش حربا – وبخاصة حربا كانت في غالبية فصولها حربا أهلية - وفي أي عمر كان ولكن بخاصة إذا كان طفلا أومراهقا أو شابا يافعا، إنما ينطبع بشكل نهائي بالأسى الذي تنتجه الحروب وتلك الأهلية بنوع خاص.
الأمر الثاني هو أن الحرب مدمّرة وبقدر ما تطول بقدر ما تتسع دائرة الدمار الذي تخلّفه. فكيف نتجاهل وننسى أو نتناسى؟؟؟
كل الحروب قذرة لكن الحرب الأهلية هي الأكثر قذارة. لماذا؟ لأنها تدور في فضاء أهلي وبين الجوار وأحيانا الأهل ولأنها لا يمكن إلا ان تنتهي بأحد حلّين، أحلاهما مرّ: إما بغلبة فريق على الآخر، فالاستكبار والبطش والاقصاء فالفرقة، وإما بتسوية بين المتحاربين فيصح قول المثل: "الدورة علّي راحت عليه...".
كيف انتهت الحرب في لبنان؟ انتهت بتسوية بين المتحاربين وبانضمامهم معا إلى نعمة السلطة. وباستثناء محاولة بعض الميليشيات إدماج عناصرها في المؤسسات الرسمية، المدنية منها وغير المدنية، وباستثناء التفاتة النواب الطائفيين – وهي مشتقة هنا من الطائف أي أسم المدينة التي استضافت النواب اللبنانيين لعقد التسوية وإيجاد حلّ يلغي الطائفية، وهذه مفارقة بحد ذاتها - التفاتتهم نحو كتاب التاريخ حيث وجدوا فيه علّة العلل وقرروا توحيده بهدف نقل تاريخ واحد الى كل الطلاب اللبنانيين فيتوحدون... وهنا أيضا يجري البحث عن الوحدة عبر هروب إلى الوراء هذه المرة وبحسب تاريخ نصنّعه بأنفسنا غب الطلب...
باستثناء هاتين المبادرتين، حاول اللبنانيون نسيان ما حصل واقتصرت الذكريات على روايات خاصة يتناقلها البعض في مجالسهم الخاصة أو أنهم ينقلونها إلى اولادهم من وجهة نظر تجربتهم الشخصية في الحرب ورأيهم فيها، فيساهمون في إعادة إنتاج العوامل القادرة على إنتاج الحرب من جديد. هذا إذا تقاطعت مصالح كبار العالم وقرروا مدّ اللبنانيين بالسلاح والذخيرة وشكلوا نوعين من الخلايا: خلايا أزمة ترصد التطورات وترسل المبعوثين والموفدين وخلايا الاستقصاء لرصد حجم الدمار وإعداد مشاريع قروض لإعادة الإعمار...
في الذكرى الأربعين لتلك الحرب اللعينة، لا بد لنا من وضع الاصبع على ثلاثة جروح، ذلك أن ذكرى الحرب وإن أصبحت بعيدة عنا اليوم، إنما هي تحرك جراحنا تماما مثل الذكرى الأولى فتزيد الألم ولا يهدّىء مرور الزمن الأسى الدفين في النفوس.
الجرح الأول هو جرح أهالي المخطوفين والمفقودين وهم ما زالوا لليوم يعيشون مأساة اختفاء أحبائهم ولا أحد يسأل من المسوؤلين أويحاول المساهمة في توضيح الحقائق بما يسمح للأهالي باليقين حول مصير أحبائهم ومعرفة ظروف اختفائهم وربما أماكن وجود رفاتهم إذا ما تأكدت الوفاة ومعرفة ظروفها فيسمح لهم ذلك بالانحناء أمام ذكراهم وإحياء الذكرى كأي مناسبة حميمة.
هذا الموضوع حساس جدا ويستدعي القيام بجردة للمقابر الجماعية وإجراء فحوص الحمض النووي للرفات وذلك من دون التوقف عند هويات الخاطفين أو القاتلين بالتفصيل. كذلك هناك حاجة ملحّة لإجراء تحقيقات – بمنتهى السرية- مع قادة المليشيات وقادة المحاور وحتى المحاربين القدامى إذا كانوا موجودين، بهدف واحد أحد: استكمال جمع المعلومات حول مصير المفقودين والحاجة ملحّة أيضا لإجراء محادثات جدية وسرية للغاية مع المسؤولين في سوريا والطلب منهم إجراء تحقيقات – وربما إجراء تحقيقات مشتركة - مع العديد من المسؤولين الأمنيين السوريين السابقين في لبنان وكذلك مع مسؤولين أمنيين ومسؤولين عن السجون في سوريا نفسها. كذلك هناك جهود يجب أن تبذل مع قادة المخيمات الفلسطينية وقادة الفصائل ونعرف أن الحراك الكبير الذي عرفته المخيمات الفلسطينية يجعل الأمر بمنتهى الصعوبة. لكن هناك حاجة بدون شك لتشكيل لجنة لتقصي الحقائق والمصالحة الوطنية. ولا بأس أن يعطى الشهود الذين يقبلون بالافصاح عما يعرفون حصانة، ولا بأس ايضا بإعطاء الأمان لمشاركين في أعمال الخطف والتعذيب والسجن والتصفية بشرط أن يرفدوا اللجنة بالمعلومات التي لديهم.
المطلوب ليس نكء الجراح بل بلسمتها ولا يمكن بلسمة جراح أهالي المفقودين إلا بكشف الحقائق واعتماد آليات وطنية للتعبير عن التضامن معهم في لحظات الحزن والأسى مثل أن يكرّس يوم في السنة، يوم 13 نيسان من كل سنة، يكون يوم ذكرى شهداء الحرب اللبنانية من مدنيين وغير مدنيين - ونقصد هنا الشهداء المدنيين إلى جانب المقاتلين، وتشييد نصب يعبر عن الذكرى وإقامة لوحة ضخمة من الرخام، يدوّن عليها أسماء الذين فقدوا وتأكدت وفاتهم وتاريخ الوفاة إذا أمكن، وإلى جانبها لائحة بأسماء المفقودين وتاريخ اختفائهم القسري. فيتم رفع هذا النصب وتلك اللوحة في حديقة عامة كبيرة في العاصمة بيروت. عندها، يمكن اللبنانيين، مدنيين ورسميين أن يحيوا ذكرى الحرب في هذا اليوم الوطني الجامع. فإقامة مجالس العزاء تعزّي والتشارك في الحزن وفي الصلاة يخفف من وطأة الحزن الذي يشعر به أهالي الشهداء والمفقودين.
الجرح الثاني هو أجيال المقاتلين الذين تبعثروا عند انتهاء الحرب وتم نسيانهم تماما وذلك اعتقادا من المجتمع السياسي اللبناني بأن المقاتل ينتقل من الأعمال الحربية إلى الحياة المدنية العادية بصورة تلقائية.
وهذا خطأ فادح. إذ لا يمكن شابا انخرط في الحرب وخاصة أولئك الذين شاركوا في أكثر عمليات الحرب الأهلية قذارة، من خطف وتعذيب وتنكيل وتصفية واغتصاب وتشنيع بالجثث وارتكاب مجازر... وفي الغالب كانت المخدرات رفيق الدرب لهؤلاء، لا يمكن هؤلاء أن ينتقلوا بهذه السهولة من ضفة إلى أخرى اي من الحرب إلى السلم.
لم يتساءل أحد منذ أربعين عاما حتى اليوم ماذا حصل لهؤلاء. ولم يكلّف احد نفسه – في الوسط السياسي الذي استخدمهم على الأقل- عناء تقديم اقتراح ببرنامج إعادة تأهيل وإدماج اجتماعي للمقاتلين ولسائر عناصر الميليشيات، أو أي برامج تأهيل ومساندة اقتصادية اجتماعية.
بعد أربعين عاما من بدء الحرب وخمسة وعشرين عاما على انتهائها، يؤلمنا القول بأن هؤلاء المرتكبين والضحايا في آن واحد أهملوا فحاول بعضهم تجاوز الصدمة والانتقال إلى شاطىء أمان الحياة المدنية وفي الغالب بمساعدة أهلهم دون سواهم، وتعثّر البعض الآخر وهم الأكثرية، فقبعوا في الزوايا، في المخابىء، في الحواشي وتحولوا عالة على أهاليهم. من تزوج منهم وأصبح لديه اولاد، عرّض أسرته للاضطراب واحيانا نقل اليها أجواء غير سليمة عاشها خلال الحرب. بعضهم نقل العدائية والتعصب والتشفي والاستهتار بالقوانين والاستكبار إلى أجيال جديدة بريئة وبعضهم الآخر نقل العدمية والعبثية وشذوذ الآفاق إلى أجيال جديدة بريئة هي ايضا. بعضهم عمل وما زال يعمل في الاقتصاد الموازي في التهريب والتجسس والاتجار بالممنوعات وبعضهم يعيش على الأدوية المسكّنة والمخدرات.
أجيال شابة بأكملها ضربتها تلك الحرب اللعينة بنفسيتها وأحيانا في أخلاقها ولا أحد التفت اليها لإعادة تأهيلها ومساندتها. في لبنان، اجتمعنا على إعادة التأهيل والاعمار لكل ما تهدم ماديا – وحسنا فعلنا- لكننا تجاهلنا الانسان تجاهلا كلّيا.
الجرح الثالث هو جرح اصحاب الارادات الطيبة في الاصلاح والتحديث- وهو جرح بليغ بصراحة- وهؤلاء لا يستفيقون من وهلة صدمة إلا ويواجهون صدمة أخرى، وذلك منذ بداية مرحلة ما بعد الحرب. فهم رأوا وما زالوا يرون الى الآن المنافقين ينالون من الأوادم والقتلة يكافئون وآخر القوم يعتلي قيادتهم والمحتالون يكرّمون فيما المجتهدون والصادقون والشجعان يقصون ويزبلون.
والمشهد المضحك المبكي ان رموز الحرب وأبطالها يحاولون اليوم ركوب موجات الاخلاق والاصلاح وقد استباحوا عقولنا والذاكرة. منذ خمسة وعشرين سنة ونحن نترحّم في كل مرة على الحقبة التي سبقتها حتى أن بعضنا بات يترحّم على سنوات الحرب نفسها.
يتساءل البعض لماذا لم ينتفض اللبنانيون على الفساد والاستبداد والمحسوبية – والمفارقة ان المسؤولين هم اليوم المنتفضون - ونعتقد أن السبب في انكفاء اللبنانيين عن الانتفاضات هو أنه الى اليوم لم يعوا أن ما يفترقون حوله هو الذي يجب أن يجمعهم. فهم يضعون العلّة دائما في "اللبناني الآخر" فيما هو واقع في البلية نفسها. وهم يختارون أمام هول المصيبة التي نحن فيها، إما اللهو ، وإما الهجرة. فكيف تريدون أن تتغير الأمور.؟؟؟
لقد أدهشني دائما الشعب اللبناني بجرأته وذكائه في الدراسة وفي العمل في كل المجالات، واغضبني دائما غباؤه في الحياة المدنية والسياسية.
كل ذكرى حرب لبنان وانتم بخير في الملاهي والمهاجر أيها اللبنانيون...