هل يمكن تحييد لبنان عن الصراعات العربية – العربية وكيف؟

Article du Pr. Fadia KIWAN - An Nahar, 17 avril 2007
Le 17 avril 2007
Journal An Nahar - Campus des sciences sociales

هل يمكن تحييد لبنان عن الصراعات العربية – العربية وكيف؟ بيروت، في 17 نيسان 2007 د. فاديا كيوان الماضي الذاكرة الجماعية اللبنانية مثـّقلة بذكريات الـ 86 عاماً التي تخللت الحياة الوطنية اللبنانية منذ نشأة الجمهورية اللبنانية عام 1920. تلك الذكريات تتصل بارتباط الحياة السياسية اللبنانية بقوة بعوامل خارجية دولية وإقليمية مؤثرة، بل فاعلة لا بل فاصلة في تحديد مسارات الوضع السياسي اللبناني الداخلي. وإذا استثنينا حقبة الانتداب، أمكن لنا ان نتوقف عند محطات عدة في تاريخ لبنان الحديث عاش خلالها هذا الوطن الصغير أزمات خانقة وفي العديد من الحالات أحداث دامية مؤلمة ومدّمرة في سياق ارتباط الداخل اللبناني بالخارج. لن أدخل في موضوع الظروف الخاصة الخارجية التي مهـّدت وشجـّعت على تسريع الاستقلال في العام 1943 لان ميثاق 43 في ما بين زعماء الاستقلال، لاسيما بين الرئيسين بشارة ألخوري ورياض الصلح، قد وضع ركيزتين أساسيتين للحياة الوطنية: فك الارتباط مع سوريا بالنسبة للبعض وفك الارتباط مع فرنسا بالنسبة للبعض الآخر. وانطلقت المسيرة الاستقلالية على ان يكون لبنان همزة وصل بين الشرق والغرب وألا يكون ممراً أو مقراً لأي مؤامرة ضد سوريا. ان فك الارتباط بحد ذاته أمراً رمزياً لكنه أوحى للصحافـي المـعـروف جـورج نـقـاش قـولـه الشهيـر " بـأن سلـبـيتـين لا تـصنعـان وطـنـاً " ‘’Deux négociations ne font pas une nation’’. وكان زعماء الاستقلال واعين الى ان بناء الدولة الوطنية المستقلة عليه ان يترافق وتعزيز بناء الأمة أي تعزيز اللحمة الوطنية كما عبّـر عن ذلك الرئيس رياض الصلح في البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال ..." ان اليوم الذي نتغلب فيه على الطائفية سيكون يوماً تاريخياً في حياة الأمة"... بدأت الورشة الوطنية لبناء وتعزيز الجوامع المشتركة، لكنها ترافقت والعثرات والأزمات حول توزيع السلطة والمشاركة الطوائفية في الحكم. ظهر منذ ذلك الحين موضوع رئاسة الجمهورية على انه مشكلة. فالصلاحيات التي أعطاها الدستور للرئيس كانت واسعة جداً ولم تقابلها مسؤوليات. وكانت الحكومات المتعاقبة هي التي تدفع الثمن. ففي كل أزمة تذهب حكومة وتأتي أخرى، مما أشعر المسلمين بأن رئاسة الحكومة هي صورية وأنها كبش المحرقة في كل أزمة. فبدأ تباطؤ فئات واسعة من المواطنين في الانخراط في مؤسسات النظام السياسي اللبناني ونمى شعور بالغبن وكذلك الولاء لتيارات قومية عزّزها تصاعد الفكر القومي في الخمسينيات والستينيات مع حزب البعث والحركات الناصرية. وفي جو عدم رضى عن المشاركة في السلطة نمت الروابط مع بعض مواقع النفوذ العربية وفي المقابل تشبّـث الفريق الحاكم بروابط مقابلة. ما لبثت هذه الروابط وتلك ان أظهرت انعكاس صراع المحاور الإقليمية على الداخل اللبناني فوقع هذا الداخل في شباك التجاذبات الخارجية وانفجرت أحداث 1957 – 1958. وقد عـرّفت الذاكرة الجماعية اللبنانية أحداث 1957 – 1958 بصراع محور بغداد ومحور القاهرة. كان محور بغداد والقاهرة يعكسان في حينه تجاذباً بين المعسكر الغربي ومعسكراً ممانعاً له. وكان النظام العراقي والنظام الناصري في مصر قد أخذا استحكامات في إطار صراع دولي كبير. فإذا بالوطن الصغير يستنفر ويخترق تلك المواجهة السياسية بامتياز ويتنطـّح قادته للمبارزة باسم هذا الصراع الإقليمي – الدولي وعنه. بالطبع، كان قرار المواجهة في لبنان بالنسبة للفريقين المتواجهين قراراً مرتبطاً مباشرة بالصراع على السلطة في لبنان: تشبثاً بها بالنسبة للبعض وبحثاً عن مزيد منها بالنسبة للبعض الآخر. لكن هذا القرار ارتبط بتوقيت غير بريء هو زمن احتدام الصراع الإقليمي بين بغداد والقاهرة. وعقد القادة اللبنانيون التحالفات مع الخارج لتقوية مواقعهم في الداخل. تستعيد الذاكرة الجماعية اللبنانية كيف ان الاشتباك اللبناني في ثورة 1958 لم ينته إلا بتوافق أميركي – ناصري، بعد دخول قوات المارينز الى لبنان وتـُوج بالتوافق بينهما على شخص رئيس الجمهورية اللبنانية، الجنرال فؤاد شهاب، قائد الجيش آنذاك والذي كان قد حرص على عدم زج الجيش في المواجهة الداخلية. لم يتعلم اللبنانيون درساً من هذه الأحداث بل أنهم قلبوا صفحة الأحداث على قاعدة عفى الله عما مضى وانطلقوا من جديد في صراع على السلطة وفي أداء سياسي عام تشوبه أنواع عدة من الخلل. وقد ازداد الخلل تعقيداً بالنظر الى الأزمة التي طبعت الستينيات والتي عكست مواجهة بين القوى السياسية المسيحية الكبرى وأركان نظام الرئيس فؤاد شهاب. ولم تنفع بالشكل الكافي سياسة الرئيس شهاب المؤسسية ولا تلك الإنمائية. فإذا بأزمة المشاركة تتفاقم وتترافق خلال عقد الستينيات وازدياد المحسوبية وارتفاع منسوب الأزمات الاجتماعية خاصة بعد ان اتسعت الفجوة بين المركز والأطراف مما أدى الى تصاعد الحركات الاحتجاجية وظهور حركة المحرومين واشتداد ساعد الحركة الطلابية المعارضة للأداء السياسي العام. تستعيد الذاكرة الجماعية أيضاً الأحداث التي تلت حرب 1967 واشتداد أزمة النظام السياسي اللبناني بإزاء معالجة السلاح الفلسطيني في لبنان. فعُـقدت مرة أخرى التحالفات مع قوى خارجية متعددة بحثاً وراء دعم لمواقع النفوذ والسلطة من جهة ودعماً للباحثين عن المزيد من السلطة من جهة أخرى. فواجه لبنان أزمة مؤسسية حادة استمرت زهاء ثمانية أشهر كانت حكومته مستقيلة وهي تصـرِّف الأعمال وكان رئيسها مستقيلاً مكلفاً وفي بعض الأحيان معتكفاً... الى ان تم القبول بالشروط التي وضعتها منظمة التحرير الفلسطينية والآيلة الى تسهيل تنقل السلاح الفلسطيني في لبنان وفي منطقة عـُرفت ميدانياً باسم "فتح لاند" في جنوب لبنان لمواجهة "العدو الصهيوني". وكان اتفاق القاهرة الشهير والذي وضعه فريق اجتمع في كنف الرئيس جمال عبد الناصر لتسوية الخلاف بين لبنان ومنظمة التحرير. وكان القادة اللبنانيين منقسمين بين فريقين مناصر للقضية وآخر يتنصـَّل منها. جـرَّ اتفاق القاهرة الويلات على لبنان فتصاعدت وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية ولحق ضرر مباشر بأهل الجنوب والبقاع الغربي وممتلكاتهم وأرزاقهم وازدادت بشكل ملفت حركة النزوح من تلك المناطق نحو العاصمة وضواحيها. هكذا وبالنظر الى استقبال أعداد كبيرة نسبياً من اللاجئين الفلسطينيين يعد حرب 1948 وبالنظر الى إذعان الدولة اللبنانية لشروط الكفاح المسلح الفلسطيني وبالنظر الى عدم توافق اللبنانيين في ما بينهم على شراكة في السلطة ترضي مختلف المجموعات الطائفية، فقد ربط لبنان نفسه بمصير القضية الفلسطينية وأقحم نفسه في قلب النزاع العربي الإسرائيلي مع انه كان قد اعتاد على تصنيف نفسه كدولة مساندة وليس دولة مواجهة في هذا النزاع. تستعيد الذاكرة الجماعية اللبنانية أيضاً الأحداث الكبرى التي عُـرفت بالحرب اللبنانية والتي تعددت فصولها وتنوعت بين حرب مع الفلسطينيين في المراحل الأولى وإن كان ذلك ضمن تحالفات لبنانية – فلسطينية، الى حرب لبنانية – لبنانية بدءاً بالعام 1983 حول هوية النظام والمشاركة السياسية. وفي تلك الحرب استنجد اللبنانيون بالسوريين والإسرائيليين ونادوا على المبادرات الدولية لفك الاشتباك في ما بينهم وللتحكيم في الخلافات الواقعة بينهم. ولا أحد ينسى ان هذه الدوامة لم تنته إلا بتدخل خارجي بمبادرة سعودية ومباركة عربية ودولية وهندسة سورية، في إطار اتفاق الوفاق الوطني في الطائف (1989) والذي فرض على اللبنانيين وقف الحرب وإطلاق مسيرة إعادة بناء الدولة. الحاضر اما اليوم فلا حاجة لجهد كبير لتركيب مشهد الوضع السياسي اللبناني حيث يرى المراقب كم ان الداخل اللبناني مرتبط بالخارج وكيف ان الصراعات الدولية والإقليمية قد وجدت في لبنان منفذاً لها بل قـُل مسرحاً بل ملعباً. وقد رأينا كيف تغاضت الدول الكبرى عن خروج القوات العسكرية السورية المتواجدة في لبنان على مقررات اتفاق الطائف. فقد نصّ هذا الاتفاق على مدة سنتين على الأكثر ومن ثم إعادة الانتشار من دون تحديد مهام أمنية لبنانية بعد هذه المهلة. كذلك رأينا كيف كانت القوى الدولية تمالق النظام في سوريا وتغض الطرف بل تتجاهل احتجاجات ومعارضات ومقاومات اللبنانيين على اختلافهم لهذا التواجد الذي تحوَّل احتلالاً وما رافقه من شطط ومن مخالفات ومن تجاوزات. ومن ثم تغيَّـر المناخ الدولي وأصبحت الدول الكبرى فجأة شديدة الحرص على سيادة لبنان وهي لا تنام الليل قبل استعادته حريته وسيادته. ثم جاءت سلسلة الاغتيالات المجرمة والتفجيرات لزعزعة ثقة اللبنانيين ببلدهم ولضرب صورة لبنان في العالم بعد ان كانت قد بدأت تتجدد. ومؤخراً ظهر المشهد الإقليمي متمحوراً حول أزمة تصاعد نفوذ إيراني في الشرق الأوسط وربما في العالم العربي. وانقسم القادة اللبنانيين كما العادة، بعضهم مع أميركا وبعضهم الآخر مع إيران وسوريا. وبالطبع ترافق هذا الاصطفاف مع خلاف لبناني – لبناني طائفي حول المشاركة في السلطة. وتكرّس مشهد التبعية للداخل السياسي اللبناني إزاء الخارج بدخول البلاد في المأزق وغياب الموقع المؤسسي القادر على التحكيم في النزاع الداخلي. فاتجهت أنظار اللبنانيين مرة جديدة نحو الخارج بحثاً عن حل. أمام هذا المشهد لا يسعنا إلا وان نستعيد تعبير الأستاذ الكبير غسان التويني "حرب للآخرين" ‘’Une guerre pour les autres’’. لكن لا بد لنا من الإشارة الى أمرين اثنين: 1 – ان الخلاف اللبناني – اللبناني وبصيغته الطائفية، هو خلاف حقيقي ومستمر منذ عقود حيث التسويات كانت مجرد هدنة وكان يبقى دائماً زغل وبالتالي كان الأمر يبقى دائماً مرشحاً للتردّي والتصدّع. كذلك تراكمت الأحقاد وترافقت بأحداث مؤلمة أصبح بعدها من الصعب قلب صفحة كما كل مرة على قاعدة "عفا الله عما مضى ولنستأنف المشوار المشترك"... إذا لم يكن هناك حسم للخيارات الكبرى بما يحمي لبنان في وجوده كوطن وفي مؤسساته كدولة وطنية ذات سيادة وكدولة عربية ذات خصوصية يتحدَّث عنها كل من التاريخ والجغرافيا. 2 – برأينا يمكن للقادة اللبنانيين – على اختلاف مشاربهم – الاستقلال عن الخارج والتوجه نحو البحث عن حل في ما بينهم بشرط ان يتحلـّى بعض القادة ببعض الصفات والفضائل اذكر منها: الذكاء والحكمة والشجاعة والترفع والقدرة على رسم رؤية مستقبلية. المستقبل ان العديد من الشباب لاسيما الطلاب الجامعيين منهم يتساءلون عما إذا كانت أزمة النظام الحالية – إذا سلمنا انها ليست أزمة حكومة – بل أزمة نظام – سننتهي كما سابقاتها من الأزمات. وفي حين يتطلع العديد من القادة الى طائف ІІ أي اجتماع يعقد في المملكة العربية السعودية ويضم مختلف القيادات ويصل الى تسوية في ما بينهم فيعودوا متشابكي الأيدي كما عاد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الحكومة "الحماسية" إسماعيل هنية، ففي المقابل هناك أوساط كثيرة تتساءل حول صدقية أي اتفاق أياً كان اسمه وأينما عقد إذا كان مجرد هدنة هشة وصفحة تقلب في كتاب أزمات هذا الوطن الصغير، على زغل. فالشباب يهاجرون، المتعلمين قبل سواهم والعدد الأكبر بينهم يحاول ألا ينظر الى الوراء عند المغادرة ففي القلب غصّـة على وطن يتركوه لأن لا حول ولا قوة لديهم لحمايته ولتعزيز استقراره بل انه تحوّل الى قالب من الحلوى – رحم الله الرئيس شهاب الذي تحدث عن قالب الجبنة وعن أكلة الجبنة – Les fromagistes . وهذا القالب من الحلوى موضوع على مفترق طرق وهو في مَهَبْ الرياح. انه مأزق النظام الديمقراطي التوافقي – الذي يسميه اللبنانيون النظام الطائفي – الذي اعتمده لبنان وما زال. وهذا النظام يقضي بالمرونة إزاء الحاجات والانتظارات الشعبية وهو قائم على توازنات في ما بين الجماعات التي تكوّن المجتمع الوطني وهو بالتالي محكوم بضرورة التكيْـف مع التغيرات التي تطرأ في مختلف ألظروف. يُـفهم من البيان الوزاري الأول للرئيس رياض الصلح كما من المادة 95 المعدَّلة من الدستور وكذلك من مختلف قرارات اتفاق الطائف ان النظام التوافقي هو مرحلة انتقالية نحو صيغة أخرى للنظام يجري اعتمادها مع تشكل المجتمع السياسي الوطني الاطائفي. لكن لبنان يعيش في دوامة إعادة إنتاج الطائفية لا بل يلاحظ المراقب ان مسار الحياة السياسية دفع مختلف المجموعات الى مأسسة هويتها الطائفية وظهرت تدريجياً الهويات المذهبية في الطوائف. فاذا بالنظام يزيد من الولاءات الطائفية بدلاً من إضعافها. فالنخب الطائفية والمذهبية تعمل على إعادة إنتاج نفوذها السياسي عبر تغذية الروح الطائفية والمذهبية وهي بالتالي ستبقى في حالة عدم استقرار وستبقى بحاجة لإيجاد مواقع دعم خارجية لحماية "حصتها" في السلطة. وغني عن القول بان هذه الحصة لا تعود بالنفع الى مجمل الجماعة الفئوية بل الى شبكة المحاسيب ضمن الفئة على حساب المواطنين جميعاً الى أية طائفة أو مذهب انتموا وعلى حساب المصلحة العامة للبلد. جواباً على السؤال الذي يتردد بين الشباب حول ما إذا كانت التسوية القادمة – قول إنشاء الله – هدنة بين أزمتين وإذا كان مصير لبنان وحياته السياسية الداخلية سيبقيان معلـّقين في مهب الريح، أؤكد ان الأمر هو كذلك بالتمام. بل أؤكد بأن الحاجة الى الارتباط بالقوى الخارجية هي حاجة بنيوية في نظام تقاسم السلطة طائفياً الذي نعتمده. اما وقد بدا لنا المنحى الخطير الذي قد يتجه اليه نظام تقاسم السلطة هذا وكيف ان المؤسسات الدستورية يمكن ان يصيبها الشلل في أي مناسبة، وكيف ان النخب السياسية محكومة بالبحث الدائم عن دعم خارجي، وبعد ان بدأ يتردد الكلام السياسي حول مأزق نظام المشاركة وضرورة العمل بحسب النظام الديمقراطي التقليدي المعروف بالغرب تحت عنوان النظام التنافسي، فلا بأس إذا حلمنا – على الأقل حَلِمْـنا – نحن الذين لا رأي لهم في ما يجري وهم دائماً في عداد ضحايا خيارات النخب الطائفية على اختلافها، إذا حلمنا بمدخل الى تحقيق الاستقرار لوطننا الصغير: هذا المدخل هو بنظرنا في اتخاذ القرار الشجاع بالدخول في مسار إلغاء الطائفية بالتزامن مع تكريس حياد لبنان الايجابي في تسوية تاريخية بالفعل إذ تفتح الباب امام مستقبل مشرق لهذا البلد الصغير. كيف نتصور مستقبل لبنان المحايد؟ في الماضي كان البعض يتداول بمشروع حياد لبنان وبالإتيان ببوليس دولي على الحدود. وفي الواقع انجرف لبنان بسبب سياساته الدفاعية والخارجية الغامضة الى موقع المواجهة وليس المساندة في الحرب مع إسرائيل. وكانت للبنان جولة طويلة من العلاقات الأخوية المميزة التي تركت إرثاً من الجراح من الصعب ان تلتئم في وقت قريب. لكن الشعب اللبناني اظهر قدرة استثنائية على الصبر والعناد والمقاومة، اذكر منها انتقائيا - واعتذر على ذلك لضيق الوقت - شعلة الرفض الدائمة في الأوساط المسيحية للهيمنة السورية وشعلة المقاومة الباسلة للاحتلال والعدوان الإسرائيلي في الأوساط الشيعية وشعلة الولاء لقضية العرب الكبرى اعني القضية الفلسطينية - في الأوساط السنية. كما ان خصوصية لبنان الظاهرة في اقتصاده الحر كما في ثقافته المنفتحة دائما على التنوع، وليس فقط في نظامه السياسي، هذه الخصوصية قد أكسَبَتْ اللبنانيين مادياً ومعنوياً في المحيط العربي، وهو المحيط الطبيعي له. فلبنان لا يمكن ان يكون محايداً بمعنى سلبي أي ان يغسل يديه مما يجري من حوله بعدما احتضن اللبنانيون قضايا العالم العربي والإسلامي وشيدوا لها المنابر. كذلك انخرط العديد من اللبنانيين في سياق نضالات عالمية ودولية وأممية متنوعة وبرهنوا بذلك أنهم أبناء زمان ومكان وهم ليسوا على الهامش بل أعضاء فاعلين في محيطهم وفي العالم. لكن انفتاحهم واحتضانهم لكل القضايا جعل من بلدهم الصغير ساحة مشرَّعة أمام كل الناس وملعباً سائغاً أمام كل اللاعبين الإقليميين والدوليين. فمن جهة لا يمكن للبنانيين الخروج على تقاليدهم وتراثهم العريق في الانفتاح ومن جهة أخرى لا يستطيع اللبنانيون ان يستمروا في تشريع أبوابهم أمام كل العواصف. وفي هذه الحقبة الحرجة، اعتقد ان معظم اللبنانيين واعون بأن مصير لبنان مهدد بالزوال كما كان الأمر في السبعينيات وان هناك احتمالا بأن يدفع الكيان اللبناني ثمناً لعدة تسويات إقليمية ودولية. أمام هذا الخطر الحقيقي، يمكن للبنانيين ان يعيدوا تشكيل السلطة في ما بينهم وان يتخذوا القرار الشجاع بإعلان حياد لبنان الايجابي في المحيط العربي. فالحياد الايجابي بحسب النموذج النمساوي هو غير الحياد السويسري، اذ تبقى كل الخيارات مفتوحة أمام اللبنانيين للتفاعل مع كل القضايا والتيارات ولاتخاذ المواقف الداعمة لها ويمكن ان يبقى لبنان ذلك المنبر الذي يحتضن كل القضايا وكل الآراء. لكن الحياد الايجابي يفترض ان يبقى لبنان خارج الصراعات التي قد تنشأ - وهي دائما تنشأ في ما بين الدول - بدءاً بالصراعات العربية - العربية - مروراً بالصراعات الإسلامية - الإسلامية وصولا الى الصراعات الدولية. خيار الحياد الايجابي يفترض ان يعيد لبنان النظر في سياسته الخارجية فتكون مسالمة مع الجميع ومنفتحة على الجميع من دون تحيّـز وكذلك في سياسته الدفاعية، فيكون مسالماَ غير مقاتل لا مع احد ولا ضد احد في العالم العربي والإسلامي. وتكون المهمات الأمنية في يد المؤسسات الأمنية الوطنية دون سواها - ويجب الا ننسى ان احتكار العنف المنظم هو إحدى أولى مهمات الدولة - وان لا يدخل لبنان في أي موقف عدائي او داعم لأي طرف في النزاعات المسلحة الدائرة والتي قد تنشأ. لبنان صاحب الحياد الايجابي سيبقى عربياً بامتياز لكنه سيكون للعرب جميعاً منبراً وقناة تواصل وسيبقى منتمياً الى مجموعة الدول الإسلامية - وان كانت صفته الإسلامية جزئية بالنظر الى مسيحيته البنيوية، لكنه سيكون عنواناً لانفتاح العالم الإسلامي على الغرب المسيحي وعلى التعددية الثقافية والدينية والحضارية بصورة عامة. وسيبقى لبنان منفتحا على الثقافة الغربية لكنه سيكون جسراً حقيقياً للتواصل ين العرب والعالم الغربي والإسلامي. يمكن ان يكون لبنان كذلك بشرط ان يُـبقي نفسه بمنأى عن المحاور خاصة العسكرية منها. ان الحياد الايجابي لم يعد خياراً بالنسبة للبنان بل قدرٌ محتوم إذا أراد اللبنانيون ان يبقى البلد بدل ان يتقاسم أشلائه الجيران والأشقاء، الأقربون منهم والأبعدون. لكن كيف نعلن ميثاق حياد لبنان الايجابي اذا كنا بحاجة دائمة للدعم والحماية؟ الدعم في صراعنا الطائفي والمذهبي على السلطة والحماية من التهميش في حال كانت الغلبة لسوانا في الداخل؟!... ان النظام السياسي الطائفي يعتاش ويتجدد من خلال صراعات المحاور. فهو من جهة يخـدُمها بأن يتعهد اللبنانيون فتح المعارك السياسية والعسكرية باسمها. وفي نفس الوقت يستغلـُّها أي ان النخب تحاول الانتعاش وتعزيز مواقعها او حماية مكاسبها عبر التحالفات مع الخارج. الحل هو في الانتقال التدريجي الى نظام ديمقراطي تنافسي وبوضع قوانين صارمة تفرض الشفافية - خاصة المالية - على جميع العاملين في السياسة، وتضع ضوابط في العمل السياسي تفضح كل من يسعى للاستقواء بالخارج او الى تمويل من الخارج. كذلك يجب ان يواصل لبنان بناء مؤسساته الدستورية والسياسية وان يجد في إطار مؤسساته الدستورية موقعاً يقوم بمهمة التحكيم في الخلافات ان وقعت ويعطي الضمانات لحماية المجموعات الطائفية في حقوقها الأساسية دون المساس بحقوق الإنسان الفرد أو على حسابه. ان الشروع في الغاء الطائفية وتكريس حياد لبنان الايجابي يشكلان المدخل الحقيقي الى استقرار لبنان والى فصل المسار السياسي الداخلي اللبناني عن الخارج الى حدٍ كبير. فالاحتكام يكون عندها للقوانين والمبادئ الدستورية العامة بين اللبنانيين. لكن هذا الحلم لا يمكن ان يتحقق بين ليلة وضحاها بل هناك هدنة ضرورية في مرحلة انتقالية، يتم فيها فض الاشتباك والبدء بحوار وطني واسع وحقيقي مع تصميم على حسم بعض الخيارات بشكل واضح وثابت. بالأمس كان النزاع بين المسيحيين والمسلمين بل بين الموارنة والمسلمين حول مسألة المشاركة. وجاء اتفاق الطائف فأنهى ما سمي بالهيمنة المارونية وأبقى الكرة في الملعب فالتقطها آخرون وعاد التقاذف بها بحثا عن هيمنة. اليوم النزاع على السلطة يجري بشكل رئيسي بين النخب الإسلامية. فهل نستبدل هيمنة بأخرى ومن ثم بأخرى؟... ام ندخل جميعا الى مشروع الدولة المدنية حيث اللبنانيين جميعا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات ومتفقون على القيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع بعيدا عن مشاريع المجتمعات المغلقة التي تغلغلت في البلد خلال العقود الأخيرة؟ دولة مدنية يثق بها كل مواطنيها ويعهدون الى مؤسساتها بحمايتهم وإدارة شؤونهم. خلاصة القول ان مشروع لبنان الدولة العصرية ما زال ممكناً والحلم بمستقبل مستقرٍ ومزدهرٍ ليس مجرد خيار بل رؤية واستشراف على ان يبدأ البحث بالحياد الايجابي في المحيط العربي بعد ان يكون لبنان قد نزع فتيل الاحتلال الإسرائيلي من أحشائه وأن يكون قد عاد الى موقع الهدنة مع إسرائيل. عندها يبدأ فعلاً مسار إلغاء الطائفية وتكريس الحياد اللبناني في المحيط العربي والإسلامي. د. فاديا كيوان