متري قصعه (كلّية الحقوق والعلوم السّياسيّة، 1944): إرث قانونيّ وإنسانيّ
وُلِد متري قصعه في بيروت العام 1924. تخرّج من كلّية الحقوق والعلوم السّياسيّة في جامعة القدّيس يوسف عام 1944. يُعدّ أحد مؤسّسي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة (16 آذار 1942)، وهي مبادرة رياديّة أطلقها مع زملائه في الدفعة، ألبرت لحّام وجورج خضر، الذي أصبح لاحقًا مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس، بالإضافة إلى مجموعة من الشباب اللبنانيّين والسوريّين. هذه المبادرة الروحيّة والاجتماعيّة كانت علامة فارقة أثّرت في جيلٍ بأكمله وبثّت روحًا جديدة في الكنيسة الأرثوذكسيّة.
بعد أن كان متدرّبًا لدى المحامي موريس الجميّل، أسّس متري قصعه مكتبه الخاص في العام 1956. اشتهر خلال مسيرته المهنيّة كمحامٍ بنزاهته والتزامه الثابت بالعدالة، ما أكسبه تقدير زملائه. وفي ستينيّات القرن الماضي، دفعه حسّه الوطنيّ للمشاركة الفاعلة في المجال السّياسيّ. إلى جانب شخصيّات بارزة مثل فؤاد بطرس؛ مانويل يونس؛ باسم الجسر؛ جوزف مغيزل؛ حسن صعب؛ وسليمان الزين، كما أسّس حركة التقدّم الاجتماعيّ، وهي مجموعة تقدميّة تهدف إلى تطوير لبنان وتعزيز قيمه.
استمرّ تأثير مسيرته في جامعة القدّيس يوسف من خلال إنشاء "صندوق منح متري قصعه" في العام 2018 بمبادرة من ابنته، فريال قصعه، وهي بدورها خرّيجة الجامعة. يدعم هذا الصندوق طلّاب كلّية الحقوق والعلوم السّياسيّة، وكلّية العلوم التمريضيّة، وكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة. وقد وصفت فريال قصعه هذه الخطوة بأنها خطوة للحفاظ على إرث والدها، الرّجل الذي كرّس حياته للحقّ والمبادئ والإنسانيّة.
هذا التكريم الذي قُدِّم باسم نقابة المحامين على لسان الأمير سمير أبي اللمع، أحد أعضاء النقابة، عقب وفاة متري قصعه في العام 1986، يُعدّ شهادة رائعة على مساهمته الكبيرة في خدمة العدالة والمجتمع. وهو ليس فقط تأكيدًا على خصاله الإنسانيّة الفريدة، بل دليلًا على أثره الدائم كمحامٍ ملتزم ما زالت أعماله تلهم الأجيال. يُعدّ هذا التقدير الأخير تتويجًا لمسيرة حياة كرّسها لخدمة القانون والعدالة والمجتمع.
كلمة رثاء من عضو مجلس النقابة الاستاذ سمير أبي اللمع الى
متري خليل قصعه (١٩٢٤- ١٩٨٦)
أربعون عامًا في خدمة الحَقّ في خدمة لُبْنان، القائم على الحَقّ والمؤمن به أبدًا، كأن الحَقّ رسالة ينادي بها، وكأن لُبْنان تجسيد لفكرة الحَقّ عنده.
يمناه على ناحية الزمن، ويسراه إلى كتاب، يومىء، فيهرع من عليائه خاشعًا أمام عليائها... والمحامون في كلّ مكان وزمان، قادة فكر وسادة كلمة.
لا تنتهي عنده جولة، حتى تبدأ تالية، كذا المناضلون يمضون العمر في الكفاح.
يوم كان له أن يختار، قرّر طريقًا له... فانتسب للمُحاماة وسما بها، وخرق أجواءها، وارتاد القمم.. فإذا به كاهن في محرابها وبلبل صدّاح في أسراب أطيارها.
سمعته المحاكم يترافع بمثل ما ينير الضوء، وينساب اللحن وتستطيع الأعاصير. وقرأه زملاؤه والقضاء بيانًا أنيقًا، ومنطقًا مشبوبًا ولغةً مدرسة، واللغة لسان، واللسان بالإنسان. كما جاء الذين عرفوه في الأربعينات متدرّجًا في مكتب المرحوم الشيخ موريس الجميل، رأوا فيه بذور نبات غريب.. وفي اكتماله ونموّه، قد وُهِبَ منحةً للريح... فتفرّق معرفةً على جبين المُحاماة.
مات وهو يتطلّع إلى المعرفة.. مات فيها وهو يلقّنها إلى أولئك الذين ترى عيونهم تفيض من الدمع، ممّا عرفوا من الحَقّ.
لقد مات، وممات هذا الكبير عظيم كحياته، جليل كأعماله. لقد رقدت تلك الفكرة الكبيرة وحول مضجعها تحوم سكينة توحي الهيبة والوقار وترتفع عن الحزن والبكاء. لقد تحرّر هذا الوجدان النبيل من آلام الحَياة ومشاقّها، وسار برداء أبيض إلى حيث يتسامى الْعَمَل عن المشاقّ والمتاعب.
هذا هو متري قصعة، فكرة متحمّسة لا ترتاح إلا إلى الْعَمَل، وروح ظامئة لا تنام إلاّ على منكبي اليقظة، وقلب كبير مفعم بالرقة والغيرة وحبّ لُبْنان.
هذه هي حياته، ينبوع تدفّق من صدر الْمُحاماةُ وصار نهرًا صافيًا يروي بالمعرفة ويهدر بحبّ الوطن.
هل تئنّ الأسود عندما تتعذّب؟
لو تئنّ يومًا، لكان أنينك جرح القلوب وجنّن العقول.
لم تئنّ يومًا ولم تسقط على جانب الطَّريق، ولم تيأس ممّن قيل إنه سقط لأنك تعرف أنّ الطَّريق طويل، وطريق الحَقّ أطول من الْحَياة.
الْمُحاماةُ خسرت بوفاتك وجهًا مشرقًا من وجوهها وعَلَمًا من أعلامها، والمحامون سيذكرونك في القنوط وفي التمنّي، مقياسًا للممكن والمستحيل، وعنوانًا للطموح، ومرجعًا يتشبّه به كلّ نضال.
باسم نقيب المحامين عصام كرم الذي كلّفني أن أقول فيك كلمة المحامين، أنحني أمام نعشك انحناء الإكبار والإجلال، ولأرملتك وولديك وأسرتك العزاء والعمر المديد.
شيئًا واحدًا يجمع عليه الذين عرفوك، أيًّا كانت الظروف، أنك واحد من قلّة... إذا دخلت إلى قلب إنسان أو نفذت إلى عقله، اقتطعت في العقل والقلب معًا مكانًا يظلّ يتغلّب على الفراق كلّ الفراق... كما كان يتغلّب على الاختلاف كلّ الاختلاف.
كأنّ القلب والعقل معك يصرخان إنهما جزء من الأرض التي ترفض الفرقة والفراق.
نم في هذه الأرض بالذات، وفي هذا التراب الطاهر الذي يستدفئه جسدك اليوم.