قبل انعقاد المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني – العربي في بكين، أكدت وسائل إعلام صينية، في معرض حديثها عن المشاريع الصينية - العربية، أنّ مشروع «المعهد الوطني العالي للموسيقى الذي يشيده لبنان، بهبة من الصين، سيصبح معلماً ثقافياً وفنياً للبنان، ونموذجاً هاماً للصداقة الصينية – اللبنانية بعد إنجازه». في الواقع، بعد انضمام لبنان إلى مبادرة «الحزام والطريق» في عام 2017، وقّع كل من لبنان والصين، في عام 2018، بروتوكولاً للتعاون الثقافي بين البلدين، وقد أصبح هذا المجال، والذي يعد جزءاً لا يتجزأ من مبادرة «الحزام والطريق»، يشهد أكبر نسبة تعاون بين الطرفين في السنوات الماضية. فالمعهد الوطني الذي تعمل الصين على تطويره في محلة ضبية الساحلية قرب بيروت، هو أول مشروع «متكامل» ممول من الحكومة الصينية في إطار مبادرة «الحزام والطريق»، وقد شددت بكين مراراً، على الأهمية التي يكتسبها هذا المشروع، من بين آلاف المشاريع التي استثمرت بها الصين في الدول المطلة على «الحزام والطريق» خلال أكثر من عشر سنوات ماضية. على الضفة نفسها، بات معروفاً أنّ لبنان كان البلد الأول في الشرق الأوسط الذي شهد افتتاح أول «معهد كونفوشيوس» لتعليم اللغة الصينية، في «جامعة القديس يوسف اللبنانية» سنة 2006، بالتعاون مع «جامعة شنيانغ» الصينية للمعلمين، وبإشراف المصلحة الصينية للتعليم الدولي للغة الصينية، لتبدأ الدراسة رسمياً في المعهد في شباط عام 2007. في السياق، توضح مديرة المعهد، نسرين لطوف، في حديث إلى «سي جي تي أن»، أنّ عدد التلاميذ الذين تخرجوا من المعهد منذ تأسيسه يقارب الألفي تلميذ تقريباً، مشيرةً إلى أنّ «اهتمام التلاميذ ذوي الأعمار الصغيرة تحديداً بتعلم اللغة الصينية أصبح لافتاً جداً، إذ يحرص أهالي التلاميذ في المدارس أن يتعلم أبناؤهم تلك اللغة، ما يعكس وعياً متزايداً حول أنّ اللغة الصينية ستكون بمثابة سلاح يمكنهم من النجاح في أعمالهم مستقبلاً». وبحسب لطوف، فإنّ اختيار الصين للبنان لافتتاح أول «معهد كونفوشيوس» في المنطقة نابع من «انفتاح لبنان على مختلف الثقافات واللغات، وهو يعكس العلاقات الجيدة المستمرة منذ مدة طويلة بين الصين ولبنان». وتتابع أنّ المعهد ساهم بلا شك في زيادة التبادل التعليمي بين البلدين، عبر وسائل عدة، ابرزها المنح الدراسية التي يحصل عليها الطلاب عبر المعهد، لاستكمال دراساتهم العليا في اللغة الصينية في الصين، مشيرةً إلى أنّ عشرات التلاميذ قد استفادوا من هذه المنح، حتى إنّ بعضهم عمل بالصين لفترة معينة، قبل عودته إلى لبنان». كما يرسل المعهد العديد من التلاميذ لقضاء شهر في الصين، على نفقة الجامعة الصينية المتعاونة مع المعهد، حيث يخضعون لبرنامج تعليمي وتثقيفي وسياحي للتعرف أكثر على مختلف المناطق والثفافة الصينية. كذلك، يقيم المعهد، منذ سنوات، العديد من الأنشطة الثقافية التي ينظمها الأساتذة الصينيون في لبنان، بالإضافة إلى العشاء السنوي بمناسبة رأس السنة الصينية، الذي تحضره عادة شخصيات صينية معروفة، مثل الطباخين والفنانين الصينيين وفرق الأوبرا، بالإضافة إلى معارض الصور، وغيرها، علماً أنّ المعهد نظم، هذا العام، أول دورة للشطرنج الصيني. كما يواكب الطلاب والاساتذة في المعهد الأعياد الصينية، ويحيونها، بحسب لطوف، لتقريب المجتمع اللبناني من الأعياد والمناسبات الصينية. وإلى جانب المعهد، وقعت الجامعة اللبنانية وجامعات أخرى اتفاقيات مع عدد من الجامعات الصينية، من مثل «جامعة شنغهاي للدراسات الدولية»، «وجامعة رينيمين» وغيرها. كما يشهد التبادل الثقافي في مجال الأفلام تقدماً ملحوظاً، وهو ما انعكس بمشاركة المخرجة اللبنانية، نادين لبكي، في «مهرجان بكين السينمائي الدولي الرابع عشر»، حيثُ تم عرض فيلمها «وحشتيني»، علماً أنّ هذه لم تكن المرة الأولى التي تشارك فيها لبكي في المهرجان في بكين، وأنّ فيلمها «كفرناحوم» حظية بشعبية كبيرة في أوساط المشاهدين الصينيين. من جهته، بثّ «تلفزيون لبنان»، خلال السنوات الماضية، العديد من الأفلام والمسلسلات الصينية المدبلجة، بناءً على اتفاقيات مع الجانب الصيني، الذي قدم بعض التجهيزات والمسلسلات والأفلام والأشرطة الثقافية إلى القناة. وممّا لا شك فيه، أنّ العلاقة التجارية بين البلدين تتمتع بمكانتها الخاصة؛ فوفقاً لأرقام نشرها موقع «مرصد التعقيد الاقتصادي» (OEC)، التابع لـ«معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا»، بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى لبنان، في عام 2022، 2.8 مليار دولار. ومن المنتجات الرئيسية التي شملتها هذه الصادرات: أجهزة أشباه الموصلات (321 مليون دولار)، ومعدات البث (207 مليون دولار)، والمحولات الكهربائية (177 مليون دولار). وطبقاً للمصدر نفسه، وخلال السنوات الـ 27 الماضية، زادت صادرات الصين إلى لبنان بمعدل سنوي قدره 11.7٪، من 141 مليون دولار في عام 1995، إلى 2.8 مليار دولار في عام 2022، ما يجعل الصين أكبر شريك اقتصادي للبنان، الذي يستورد من الصين كل من البضائع «الرخيصة» وذات الجودة العالية. على أنّه نظراً إلى المشاريع التي طرحتها الصين على لبنان، وحاجة لبنان إلى مزيد من الاستثمارات، أصبح مستقبل التعاون الصيني – اللبناني، ومدى قدرته على التطور والتقدم، ليشمل مشاريع استثمارية أضخم، محط تساؤل العديد من المراقبين. في الواقع، طرحت الصين على الحكومة اللبنانية مشاريع تنموية بقيمة أكثر من عشرة مليارات دولار، بما في ذلك تنظيف نهر الليطاني وحل أزمة الكهرباء في البلاد. وشملت العروض الأخرى إقناع الصين بالمشاركة في قطاع النفط والغاز، وتحويل لبنان إلى مركز مالي إقليمي صيني، وتوسيع ميناء طرابلس. وبالحديث عن الأخير، في عام 2018، وصلت سفينة حاويات ضخمة تدعى CMA CGM Congo إلى ميناء طرابلس، معلنة إطلاق خط شحن جديد بين الصين والمدينة. كانت تلك السفينة هي الأولى من نوعها التي تحمل 10 آلف حاوية إلى ميناء طرابلس، الذي أعلن مديره آنذاك، أحمد تامر، أنّ ألفاً منها ستفرغ فيه للاستعمال المحلي، فيما الباقي سيذهب إلى «موانئ أخرى في المنطقة». وتابع تامر، في حديث إلى وكالة «شينخوا» الصينية للأنباء، أنّ الخط الجديد، الذي عرف باسم «بيكس»، سيساهم في «مضاعفة» حجم المنتجات القادمة من الصين إلى الميناء، علماً أنّ «شركة الصين لهندسة الموانئ» عملت على إعادة تأهيل ميناء طرابلس منذ عام 2012، ليصبح قادراً على استقبال جميع السفن الكبيرة، إذ تم توسيعه، وبناء رصيف فيه لاستقبال الحاويات، مجهز برافعات صينية متطورة قادرة على رفع ونقل أكثر من 700 حاوية في اليوم، أي ما يعادل 480 ألف حاوية في السنة. ومذّاك، تتوجه الأنظار نحو المرفأ باعتبار أنّه سيؤدي «دوراً كبيراً» في إعادة إعمار سوريا بعد الحرب. وحالياً، ورغم الصعوبات الاقتصادية التي يشهدها لبنان والتوترات في الشرق الأوسط، لاسيما الحرب الدائرة في غزة، يرجح مراقبون أنّه في أعقاب انتهاء الحرب، وخلال حقبة إعادة الإعمار في سوريا، وما بعدها، سيصبح لبنان بيئة أكثر خصوبة للاستثمارات الصينية الضخمة، باعتبار أنّ السوق سيصبح مؤهلاً أكثر لاستقبال تلك الاستثمارات، بعد انفتاحه بشكل أكبر على سوريا، وتمتعه باستقرار أمني أكبر.
بقلم مشترك: ريم هاني، صحافية في جريدة الأخبار اللبنانية وفرحانة لي، الإعلامية الصينية