في الأوّل من شهر كانون الأوّل ٢٠٢٣، نظّم معهد الدراسات الإسلاميّة والمسيحيّة في جامعة القدّيس يوسف لقاءً للتعمّق بـ "التجديد اللاهوتيّ في فكر المطران جورج خضر" بمناسبة يوبيله المئويّ. يندرج اللقاء ضمن سلسلة "وجوه حواريّة" التي افتُتِحت عام ٢٠١١ من أجل الإضاءة على شخصيّات حواريّة مختلفة الانتماءات، سعت إلى صناعة السلام بين الناس، ناشرةً ثقافة الحوار واللقاء بدل العنف والانقسام.
وُلد المطران عام ١٩٢٣ في مدينة طرابلس، حيث يعيش المسيحيّون والمسلمون معًا، درس الحقوق في جامعة القدّيس يوسف ثمّ اللاهوت في معهد القدّيس سرجيوس في العاصمة الفرنسيّة، وبعد أنْ خَدَمَ رعية ميناء طرابلس مدّة ١٥ عامًا (١٩٥٥-١٩٧٠)، انتُخب مطرانًا على أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس. اشتهر بأمانته الرعائيّة وبالتزامه الحوار مع الإنسان الآخر، فقصد المؤمنين في رعايا أبرشيّته وفي المهجر، وتقرّب من إلى الشركاء في الوطن عن اقتناع، لا سيّما في أزمنة الشدّة، داعيًا إلى صون الوَحدة والتعدّديّة في لبنان. تشوّق اللبنانيّون إلى قراءة كلمته، وبخاصّةٍ افتتاحيّة جريدة النهار أيّام السبت: كانت كلمة في خدمة الحقّ والسلام في آنٍ معًا. فاعترف الجميع به كنزًا ثمينًا للبنان والمشرق.
افتتحت الندوة البروفسورة رولا تلحوق، مديرة المعهد المنظِّم، وركّزت على أنّ الهدف الأساس من اللقاء هو الإضاءَةُ على وجوهٍ لبنانيّةٍ وعالميّةٍ عَمِلَتْ على تأطيرِ الحوارِ الإسلامي المسيحي للتأكيد بأنّ الوطن قائمٌ وسيقوم بفضلِ صنّاعِ السلام، كما بشّرت باللقاءَين القادمَين، الأوّل حول كتاب عن سيرة القاضي عبّاس الحلبي الحواريّة، والثاني حول فكر مفتي الجمهوريّةِ اللبنانيّةِ المغفور له الشيخ حسن خالد. وكشفت عن الديبلوم الجامعيّ الجديد الذي سيُطلَق قريبًا: "الأديانُ وحقوقُ الإنسان".
ثمّ قرأ الأب البروفسور صلاح أبو جودة، نائب رئيس الجامعة الأوّل وعميد كليّة العلوم الدينيّة، كلمة الأب البروفسور سليم دكّاش الذي وصف صاحب المناسبة بمطران الحريّة القائمة على فنّ الإصغاء إلى يسوع، وبخادم الكلمة والأسرار والفقراء، وعرّف عنه بأنّه مؤسِّس اللاهوت العربيّ بشأنِ فلسطين وهو رفض الكيان الإسرائيليّ رفضًا روحيًّا للدفاع عن قدسيّة الشعب الفلسطينيّ.
تكوّنت الندوة من جلستَين. تمحورت الأولى حول نظرة سيادته إلى الديانات الأخرى وإلى الإنسان. في كلمته عن مكانة الديانات في فكر المطران خضر، أكّد الأب الدكتور غي سركيس على أنّ الروح القدس، في كتابات سيادَته، يعمل خارج أطراف الكنيسة المنظورة ويجعل وجوه البشر مقرًّا للحضرة الإلهيّة ويُشعِلُ فيهم نارًا إلهيّة. كما أنّ المسيح ليس موضوعًا في قفص، بل يحضُر حيث تُعاشُ حقيقته. اتّسمت إذًا نظرته للديانات الأخرى بالتفاؤل والرّحابة. في مداخلته عن الإسلام في منظور المطران خضر، ذكّر البروفسور وجيه قانصوه أنّه أراد أنْ يخوض مع المسلمين استكشاف المسيحيّة والإسلام معًا، بالذهاب وراء ادّعاءات الحقائق التاريخيّة وعدم الوقوف عند حرفيّة الكلمات في النصوص الدينيّة بل الغوص في حقائقها. الديانتان تلتقيان في كثير من الموضوعات، إلّا أنّ التلاقي لا يعني التطابق، والتشابه لا يعني الوَحدة. فلكلّ ديانةٍ نسق دلاليّ وسرديّة أسطوريّة وإطار معنى، تتخّذ بداخلها الموضوعات المشتركة طبيعة مختلفة وتأويلات متعددة.
توسّع البروفسور جورج تامر في مفهوم "حارة النصارى" في كتابات جورج خضر الذي عرّف نفسَّه قائلًا: "أنا صبيٌّ فقير من حارة النصارى" رغم أنّه لم يولد فيها. هي في أصلها تسميةٌ لم يخترها المسيحيّون بل أتتهم من الإسلام الذي فرضها مسكنًا لهم. ولكن في وسط هذه الحارة ترتفع الكنيسة حيث يحمل المصلّون العالم كلّه إلى السماء. والفقر فيها حالٌ وجوديّة، حال الإنسان الذي يعي حاجته الوجوديّة إلى الآخر. ليست حارة النصارى، عند جورج خضر، ماضيًا اندثر، بل نقلها من حيّز المعطى المفروض إلى حيّز الوجود العقليّ المتَّخَذ طوعًا، ويمتدّ وجودها في الرجاء إلى الحياة الأبديّ.
تمحورت الجلسة الثانية حول نظرة المطران خضر إلى الرباط بين المسيحيّين وإلى الحياة الرعائيّة. في مداخلةٍ عن فكر جورج خضر المسكونيّ، توسّعت البروفسورة ثريّا بشعلاني في مساهمة سيادته في وثيقة البلمند التي رفضت الانضماميّة نموذجًا للوَحدة الكنسيّة، ثم تبحّرت في مقالٍ له يعلن فيه أنّ المسيحيّين يجتمعون على الإيمان بالمسيح، ولا يختلفون على الجوهر، وأخيرًا ذكّرت بدعمه للعمل على كتاب التعليم المسيحيّ المشترك. فهو أَحبَّ كنيسة السيّد المسيح الواحدة والمقدَّسة وكلَّ من ينتمي إليها، وساهم بكل ما أُوتيَ من مواهب روحيّة وقدراتٍ فكريّة ولاهوتيّة وراعويّة في إحقاق وحدة المسيحيّين وتفعيل شهادتهم الواحدة والمشتركة.
في مداخلتها، تحدّثت القسّيسة الدكتورة سيلفي أفاكيان عن الفكر اللاهوتي الروحيّ للمطران جورج خضر الذي يتبع في كتاباته لاهوت آباء الكنيسة الشرقيين ويقدّمه لاهوتًا روحيًّا أنثروبولوجيًّا معاصرًا. رأت أفاكيان في حركة الروح الديناميكيّة مركزًا لفكر المطران خضر، أي سعي الروح نحو كمال الناسوت وكمال اللاهوت. وفي سياق شرحها ركّزت على أهمية الموت والقيامة في فكر المطران.
في الكلمة الأخيرة التي كان عنوانها: "خواطر في الرعاية: المطران جورج خضر نموذجًا"، تجاوز الأب إيليّا متري الصفحات المكتوبة التي تركها المطران جورج "إرثًا لنا"، واستقرّ في وجهه. أخذ من حضوره الذهبيّ في الخدمة التي كان له نصيب فيها علامات ثلاث: الأب والأخ والصديق، وبيّن، في هذه العلامات الممدودة، فرادة المطران جورج وتأثيره والغنى الذي تركه في خدمة رعيّته.
حضر الندوة عددٌ من محبّي المطران خصر، ومنهم الشيخ أوسامة حداد، ممثِّلًا سماحة مفتي الجمهورية عبداللطيف دريان، الأستاذ نظام الحليّ، ممثِلًا سماحة شيخ العقل سامي أبي المنى، الأب غسّان سلّوم، ممثِلًا صاحب السيادة المطران سلوان موسي، الأب نكتاريوس خيرالله، ممثِّلًا صاحب السيادة المطران الياس عودة، صاحب السيادة المطران جورج صليبا الجزيل الاحترام، صاحب السيادة المطران مار متياس شارل مراد، رئيس اللجنة الأسقفية للحوار الإسلامي المسيحي في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك، الأب أغابيوس كفوري، ممثِّلًا صاحب السيادة المطران جورج بقعوني، صاحب السيادة المطران كوستا كيّال، الشيخ فؤاد خريس ممثِّلًا سماحة السيّد علي فضل الله، سماحة السيد علي الأمين، قدس الأرشمندريت جاك خليل عميد معهد القديس يوحنا الدمشقي في جامعة البلمند، القاضي مروان عبود، محافظ مدينة بيروت المحترم، الدكتور طارق متري، رئيس جامعة القديس جاورجيوس، الأخت يارى متى مديرة المعهد العالي للعلوم الدينية.
كان اللقاء فرصةً للتبحّر في فكر هذا الراعي واللاهوتيّ الذي دعا إلى اللقاء والحوار في زمنٍ تحوّل فيه بعض الإخوة إلى أخصامٍ يرفضون بعضهم بعضًا.
في الصحف : المدن | جورج خضر المئويّ: ندوة في جامعة القدّيس يوسف
الوكالة الوطنية للأعلام | ندوة في جامعة القديس يوسف عن "التجديد اللاهوتي في فكر المطران خضر" وكلمات وصفته ب"خادم الكلمة والأسرار والفقراء"