خرجت من الحيّ الذي كنت فيه ورحت أمشي على مقربة من الشاطئ. الهواء ثقيل هنا. موج البحر يهدر والدخان لا يزال يتصاعد من نار مشاكسة خلَّفت الانفجار الكبير. وبين الدخان الكثيف، رأيتها تركض لاهثة باتجاه مكان الانفجار. كلّ يهرب بعيدًا عنه، وهي متّجهة نحوه.
أمّ ستّينيّة هرعت إلى الشاطئ بعد سماع الدويّ المخيف تبحث عن ابنها، أحد عمال المرفأ. منعها شرطيّ من الاقتراب. شرح لها أنّ فريقًا مخصّصًا مجهّزًا يبحث عن المفقودين داخل هذه المنطقة المحظورة. فراحت تصرّ على طلبها، تتوسّل إليه، ترجوه. تريد فقط أن تدخل موقع الانفجار، أن تقترب منه فقط. لعلّه يسمع وقع قدمها فيقوم من تحت أطنان القمح والإسمنت والزجاج، لعلّه يشمّ ريحها فتعود الحياة إلى جسده البارد، لعّله يسمع صوتها فتدبّ الروح في جثّته الهامدة. لم يدرك الشرطيّ ما يتوقّد في قلب الأم في أوقات مشابهة. لم يعرف أنّ ريحها، بالفعل، يمكنه أن يوقظ ميتًا. لم يعرف أنّ وطأتها على التراب تجتذب ابنها من تحت الأنقاض كالمغناطيس. لم يعرف أنّ بكاءها ونشيجها يُبكي الصخر ويهيج الباركين ويردّ الأرواح... لم يستجب لطلبها. فراحت تصف له ابنها، تسأله إن كان قد رآه في الداخل. لعلّه معافى، بقي في الداخل ليساعد زملاءه. لعلّه مجروح، بقي في الداخل ينتظر الإسعاف. لعلّه عالق تحت عامود سقط أو تحت جدار انهار. تصفه، تقول: "ابني بمنتهى الجمال. طويل القامة، عريض المنكبَين، مفتول العضلات. وجهه ببياض الثلج مستديرٌ. عيناه عسليّتان تشعّان نورًا. ابني محبوب. ابني شجاع...". لم يُعِرِ الشرطي كلامها اهتمامًا. فهرعت إلى مذيعات ومذيعين جاءوا يواكبون الأحداث المأساويّة. انتصبت أمام آلات التصوير خاصّتهم وراحت تكرّر صفات ابنها. تسأل الناس إن رأوه، تناشد العالم أجمع. لكن، بلا جدوى... لم يره أحد، لم يعثر عليه -أو على جثّته- أحد... تتيقّن من أنّها لن تحصل على أيّة معلومة، لا من الشرطيّ ولا من المذيعين ولا من المسعفين. لم يبقَ لها سوى الركام والحطام. تلتفت ناحية موقع الانفجار وتروح تناجي الجماد: "ردّي عليّ يا أطنان القمح، هل تحتضن حبّاتك الحنونة ولدي؟ أنتِ أيّتها الجدران المهدّمة، هل تحرسين ولدي وهو يرقد تحتك بسلام؟ وأنتِ أيّتها المستوعبات الكبيرة، هل تخبّئين بين جدرانك الحديديّة ولدي؟ ردِّي عليّ أيّتها الأحجار المبعثرة، هل رأيتِ إلى أيّة ناحية ارتمى ولدي لحظة الانفجار؟ وأنتَ أيّها البحر الخضمّ، اسألْ موجاتك، هل استلقى ولدي على إحداها فحملته بعيدًا؟ تجمّعي أيّتها الغبائر المتناثرة وقوديني إلى مكان ولدي. طمئنيني عن حاله. هل هو جائع؟ هل هو متألّم؟ هل يعاني من إصابة ما؟ قولي له إنّني آتية إليه. قولي له إنّ أمّك طهت لك طعامك المفضّل. قولي له إنّ أمّك سخّنت لك قدرًا من المياه لتستحمّ وترتاح بعد يوم العمل الطويل. قولي له إنّ أمّك تركت باب المنزل مفتوحًا واللمبة مضاءة والتلفاز مشعلًا وهرعت حافية القدمين لتستطلع أمرك. قولي له إنّ أمّك على الشاطئ، تنتظرك لتصحبك معها إلى البيت...".
يا ليت قلب هذه الأمّ المسكينة يعلم كم من الوقت ستمضي بانتظاره. لو علم أنّ الانتظار سيطول ليشمل بقيّة سنوات حياتها، لكان فضّل إيقاف دقّاته فورًا، في غمامة الغبار تلك، على ذلك الشاطئ...
سنوات أمضتها تنكر الحقيقة وترفض الواقع. في البداية، كانت تبيت في منزلها ليلًا وتعود إلى موقع الانفجار ما إن تشرق الشمس. وبعد فترة، ملّت الذهاب والإياب، فأمست تفترش الرمال وتلتحف قبّة السماء. تناشد المارّة، تسألهم عن ابنها، يناولها أحدهم رغيف خبز أو ورقة نقديّة. وما فائدة رغيف الخبز أو الورقة النقديّة طالما أنّ من ندرت حياتها لتربيته وتعليمه ورعايته قد مات؟ ما فائدتهما طالما أنّ وحيدها الذي استعاضت بوجوده عن موت زوجها وأبيها وأخيها قد رحل في غمضة عين ولأتفه الأسباب وأحقرها؟