ثورة التحرير الجزائريّة و"أزمة الذاكرة"
تعدّ ثورة التحرير الجزائريّة إحدى أبرز ثورات النصف الثاني من القرن العشرين، فهي استمرّت طيلة سبع سنوات انتهت بوضع حدّ لحوالي ١٣٢ سنة من الاستعمار. وقد أُعلن استقلال الجزائر رسميًّا في ٥ تموز ١٩٦٢ وهو اليوم نفسه الذي غزت فيه فرنسا الجزائر عام ١٨٣٠، فأراده الجزائريّون يومًا لخروجها من أراضيهم أيضًا.
صحيح أنّ ثورة التحرير الجزائريّة قد انتهت عام ١٩٦٢ إلا أنّها خلّفت ملفّات ذاكرة متضاربة ومتعارضة في المجتمع الجزائريّ كما في المجتمع الفرنسيّ. ويعدّ ملفّ الذاكرة المتعلّق بثورة التحرير الجزائريّة من "الملفات التاريخيّة الساخنة" إذ إنّ فرنسا تتفادى الصدام مع الجزائر في ما يتعلّق بهذا الملف. فذاكرة هذه الحرب عند الجزائريين مختلفة كلّ الاختلاف عنها عند الفرنسيين ممّا ولد تضاربًا في وجهات النظر والمواقف.
ولعلّ نقطة الخلاف الأبرز هي رفض فرنسا اعتبار ما حدث في الجزائر حربًا، وذلك لفترة طويلة جدًّا (حتّى عام ٢٠٠٠). فقد نظر الفرنسيون إلى ثورة التحرير الجزائريّة على أنّها "حرب بلا اسم" “une guerre sans nom” وذلك لأنّ كلمة "حرب" لم تُستخدم قطّ من قِبل السلطات الفرنسيّة التي حرصت على أن تتداول وسائل الإعلام عبارات كـ "عمليّات قمع التمرّد وحفظ النظام" “opération de maintien de l’ordre” ou de “pacification”، وذلك لأنّ هذه الحرب قد شكّلت هزيمة جسيمة بالنسبة إلى فرنسا. فالمؤرّخون الفرنسيّون تجنّبوا الحديث عن الثورة وركّزوا على مصطلح الأحداث والمظاهرات فكانت تُطلق عليها على سبيل المثال عبارة "أحداث الجزائر"، في حين أنّها في الحقيقة حركة ثوريّة أعدّت لها قيادة حزب الشعب الجزائري.
وتمامًا كما تتباين رواية الجزائر ورواية فرنسا في ما يتعلّق بثورة التحرير الجزائرية، فإنّ موقفَيْ كلا البلدَين الحاليَّين حيال هذه المسألة متباينان أيضًا. فترى فرنسا أنّ ملف الذاكرة من الماضي ولا يجب فتحه بل، على العكس، يجب طيّه والانتقال إلى آفاق جديدة في العلاقات بين البلدين. وهذا نوع من التهرب إلى الأمام حيث إنّ الاعتراف بالجرائم يعتبر إهانة رمزيّة لفرنسا وفشلاً دبلوماسياً لها.
وقد راحت السلطات الفرنسيّة تمهّد إلى النسيان، أي نسيان هذه الأحداث وعدم تسليط الضوء عليها. فقد استولى على السلطات الرسميّة نوع من "فقدان الذاكرة amnésie" الذي كان يهدف إلى استعادة الوحدة الوطنيّة بين فرنسيّي الجزائر وفرنسيّي العاصمة. وهذا النسيان الطوعيّ المعتمَد الذي يهدف إلى محو الصدمات من الذاكرة الوطنيّة، رافقته سلسلة من قوانين العفو عن الحقائق المتعلّقة بهذا الصراع، الصادرة في السبعينيات والثمانينيات.
تلك كانت الحال في فرنسا، أمّا في الجزائر فقد برزت حاجة ملحّة إلى إعادة كتابة التاريخ. في الواقع، يعتبر الكثير من المؤرّخين الجزائريّين أنّ هذه الثورة لم يؤرّخ لها الجزائريّون نفسهم بما يليق بها، ولم تسجّل تفاصيلها بأمانة لتستفيد منها الأجيال التي لم تعايش يوميّاتها.
إلا أنّ إعادة كتابة التاريخ لم تتمّ بطريقة موضوعية محايدة فقد قابل سياسة النسيان التي مالت إليها السلطات الفرنسية، تكوين ذاكرة دولة أو ذاكرة رسميّة في الجزائر على شكل أساطير وطنيّة، وذلك ابتداءً من عام ١٩٦٢. حيث إنّه تمّ استغلال التاريخ من قبل جبهة التحرير التي استولت على السلطة ووضعت أسس نظام سياسيّ يتمحور حول حزب واحد، أي ديكتاتورية.
ختامًا، نلتمس من كلّ ما تقدّم الحاجة الماسّة إلى كتابة التاريخ بطريقة موثّقة علميًّا وبموضوعيّة ونزاهة وذلك بالاستناد إلى مستندات ووثائق. إلا أنّنا لا ننسى أنّ التضارب والتعارض بين الروايات والذكريات المختلفة والمتعدّدة، العاطفيّة والجزئيّة والانتقائيّة، التي تحملها كلّ من الفرق ساعيةً إلى فرض قراءتها للأحداث، يُصْعِب على المؤرّخ عمله ويجعل الوصولَ إلى حقائق ثابتة شبه مستحيل.
ميرا الحلبي