أنا الآن، يا عزيزي، جالسةٌ على كرسيٍّ في زاوية مكتبي أتصفّحُ ألبومَ صورٍ داخلَ رأسي، وأتساءل: "كيف يمكن للمرءِ أن يعي قيمة اللحظة." أيّ لحظة كانت، قبل أن تصبح صورةً جامدةً لا تتحرّك، لا تتنفّسُ، لا تنبضُ بالحياة، كمَيّتٍ داخل تابوته.
"البارحة كان مليئاً بالحياة!" يصرخ البعض من حولي فيما تراودني فكرة: "والآن قد مات". انتهى. أصبح من الماضي.
قد تظّن الآن أنّني أتحدّث من فرط الحنين إلى ذكرياتٍ في صوَرٍ أراها أمامي. وقد تكون محقًّا.
القراءةُ أيضاً أصبحت أمراً مزعجاً. كلّما قرأتَ أكثر، فهمتَ أكثر. وانتبه، ليست العبرة في أنّك فهمتَ المعنى الصحيحَ أو الأصحّ أو المقصود حتّى، بل في أنّك على الأقل تحاول التغيير من نمطِ تفكيركَ أو وجهات نظركَ ويُصبح هذا الأمر مع الوقتِ مزعجاً. تخيّل لو أنك تقراُ الآن قصيدةً عن الحنين فتخالجك أحاسيسُ مشتّتةٌ وتظّنُ نفسك في حالةِ اشتياقٍ لا تُطاقُ.
تَبكي. تَضحكُ. تَركضُ. تُغنّي. تَرقصُ. ومن ثمّ تبدأُ بالتساؤل.
يستهّلُ الكاتب محمود درويش قصيدته بعنوان "لن تأتي" قائلاً:" سأعيدُ ترتيبَ المساءِ بما يليقُ بخيبتي وغيابِها" عالماً في قرارة نفسه أنّها، كائناً مَن تكون، لن تأتي، لكنّه يُعيد إليّ أنا شخصياً الأمل، في قصيدةٍ مناقضةٍ لسابقتها قائلاً: "بِصبرِ الحصانِ المُعدّ لمنحدرات الجبال.... انتظرها". أكان متأكدّاً أنّها لن تاتي ومع ذلك انتظرها، أو أنّه انتظرها حتّى تأكّد أنّها لن تأتي.
ماذا بقي؟ آه. الكتابة.
تساعدني الكتابة، بالتأكيد، على توثيقِ سجلاتي التاريخيّة، فتُساعدني في تتبّع النَسَبِ والماضي والهويّة. مَن أنا؟ في الوقت الحاضر، أميل إلى تخصيص الكثير من الوقتِ للذاكرة في صورة، فبدلاً مِن تذّكر حدثٍ ما حصل في وقتٍ معيّنٍ مِن الزمن، أنتقل إليه عبر إلقاء نظرةٍ على جميع الصور التي التقطها له.
ما أوجَع الحنين.
ولكنّي ما عدتُ أعرف أيّهما الأصعب: الحنينُ أم الندمُ أم أنّ الإثنان معاً يُشكّلان فريقاً متناسقاً يَضَعُ خططاً لتهشيم ما تبقّى لديّ مِن قوّة.
ربّما الصور التي نرسمها في مخيّلتنا من خلال ذكرياتنا عن الماضي تعطينا الأمل وتعود فتحبطه في آن واحد. وتلعبُ الذاكرة دوراً مهمًّا في مجالات عدّة في الحياة. إنه لأمر حيويّ لمعرفتنا بالعالم وبالماضي.
لطالما قلت لأمّي: "ما أجمل صورتنا العائليّة". ترانا مبتسمين وبكامل أناقتنا ماثلين جنباً إلى جنبٍ: شقيقتي، شقيقي، والدي، والدتي وأنا، في إحدى المناسبات العائليّة الرسميّة. أوّل ما يجول في ذهنك لدى رؤيتها هو "كم هي جميلة هذه العائلة" وممكن أن تُضيف "حماهم الرّب".
في اعتقادي الشخصيّ إنّها ابتسامات مزيّفة وهذا ما جعلني لا أصدّق أيّ صورة فيها الكثير من الضحكات.
قد لا تكون تلك الضَحكاتُ تمثيلاً. أظنّ فقط، أنّنا كبشرٍ، اعتدنا أن نضحك في الصورة. فقط في الصورة. تملك الصورة سحراً، قوّةً... حتّى أنّنا عندما نُعيدُ مشاهدة شريط صور ذكرياتنا... نضحك.
إنّه أمرٌ عجيبٌ فعلاً.
تُضحكنا الصورة وتؤلمنا الذكرى. أنا أداعبُ في مخيّلتي صورًا من ذكرياتي بشكل جنونيٍّ دائمٍ وقد أبرّر ذلك لنفسي أحياناً.
فقد أصبح التقاط مئات الصور، إن لم يكن الآلاف منها، بالنسبةِ للكثيرِ مِن الناس جزءاً حاسماً من الحياة - توثيق كل التفاصيل وحتّى نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن كيف يؤثر ذلك على ذكرياتي الفعليّة عن الماضي - وكيف أنظر إلى نفسي؟ كوني خبيرة في خيبات الأمل وانفطار القلب، أنا أشعرُ بالفضول.
لا أدري مَن يكون جان لوك جودار، وليس في داخلي دافعٌ للبحث عنه لكنّه قال يوماً "عندما تُصوّرُ وجهًا، أنت تُصوّر الروح خلفه" وأنا ما عدتُ أتصوّر حياتي بدون صورٍ في ذاكرتي.
فهل تهشيم تلك الصور هو الحلّ؟
هل استطاع أحدهم في يومٍ من الأيّام تسجيل صورٍ جديدة فوق تلك الموجودة أصلاً؟ سؤالٌ لطالما أردتُ أن تكون الإجابة عليه بالإيجاب.
ومع ذلك، هناك دائماً خيطٌ رفيعٌ يفصل بين الواقع والخيال. حتّى إذا ما ادّعت بعض الدراسات أنّ كلّ هذه الذكريات تجعلنا نشعر، بحسب الظروف، بإحساسين متناقضين: أكثر قوّةً وأكثر ضعفاً، فإن ما يحدث في الواقع هو تحويل المهارات مِن القدرة على التذكّر البحت إلى القدرة على إدارة الطريقة التي نتذكّر بها بكفاءةٍ أكبر.
قد يُسمّى هذا "ما وراء المعرفة". أتمّنى لو أنّنا نملك أيضًا دليلاً جوهريّاً على أنّ الذكريات، بما في ذلك الصور الشخصيّة، تُساعد على التخفيف مِن حدّة الألم.
أعلم جيّداً أنّه غالبًا ما يولد النظر في الصور شعورًا بالاتصال، والتواصل، مع ماضٍ ذهب وعلى الأرجح لن يعود، لستُ مُتأَكّدة. الواقع الوحيدُ المُتأَكّدة منه هو أنّ الصورة بمعناها الحرفيّ تجعلني أشعر بالشعور نفسه: عندما قبّلته أوّل مرّة، أو عند التصاق جسدي بجسده في كلّ مرّة. إلاّ أنّني قد لا ألقاه حتّى من خلال الذكرى، فبدونه، أنا لستُ أنا، أنا غير موجودة.