رامي الريّس
تلقيتُ من رئيس الجامعة اليسوعيّة البروفسور سليم دكاش عقب زيارة له تطرقنا فيها إلى قضايا فكريّة وثقافيّة نسخة من محاضرة له ألقاها في العام 2017 في الجامعة الأميركيّة في بيروت وهي المحاضرة التذكاريّة لبرنامج #أنيس المقدسي للآداب وكان عنوانها: "الجامعة الأميركيّة والجامعة اليسوعيّة في بيروت: العمق التاريخي لرسالتيهما التربويّة وآفاق المستقبل". وقد صدر النص الكامل للمحاضرة في طبعة أنيقة من إصدار دار نلسن باللغات الثلاث العربيّة والانكليزيّة والفرنسيّة، وهو ما يتماشى مع سياسة جامعة القديس يوسف التي حددّها رئيسها في المحاضرة بأن "من التحديّات التي تواجه جامعتنا اليسوعيّة هي المزاوجة بين الاستمرار بالتعليم باللغة الفرنسيّة والانفتاح على اللغة الانكليزيّة كلغة التواصل في مجال الأعمال اليوم" .
ثمّة حاجة لإعادة تسليط الضوء على تلك الندوة اليوم بالذات ولو أنها نالت قسطاً كافياً من الاهتمام عند إنعقادها. فإستضافة الجامعة الأميركيّة لرئيس الجامعة اليسوعيّة هي بحد ذاتها رسالة إنفتاح ورقي في التعاون الفكري والثقافي الذي يسمو فوق الحساسيّات الموروثة بين الانغلوفونيّة والفرنكوفونيّة وبين الصراعات التاريخيّة التي وقعت بين بريطانيا (ولاحقاً الولايات المتحدة الأميركيّة) وفرنسا.
لا شك أن التنافس التاريخي بين المشروعين الفرنسي والبريطاني سواءً في المجال الكولونيالي أم في المجال الأوروبي أو حتى على المستوى الاقتصادي، ولّد ريبة متبادلة بين الطرفين، عكست نفسها حتى في أوج الحقبات المفصليّة مثل الحرب العالميّة الثانية التي سقطت فيها باريس تحت الاحتلال النازي وقاد الجنرال شارل ديغول معركة تحرير فرنسا من لندن. ثمّة وقائع تاريخيّة صادمة حيال العلاقات التي ربطت بين البلدين في تلك المرحلة والتي تم تجاوزها للتفرّغ لمواجهة النازيّة والفاشيّة ولاحقاً الشيوعيّة مع بدء الحرب الباردة عقب خروج الولايات المتحدة من سياسة العزلة التامة وإنغماسها في الأحداث الدوليّة وتحولها إلى القطب الأقوى في مواجهة الاتحاد السوفياتي.
هذه الاستعادة التاريخيّة لا تعدو كونها مجرّد مثال واحد في سياق المسار التاريخي بين منظومتي الانغلوفونيّة والفرنكوفونيّة الذي شهد محطات تنافر كما شهد محطات تعاون تمظهرت في مسارات متعددة كالمبادىء الغربيّة العامة فضلاً عن تقاطع المصالح الإقتصاديّة والمركنتيليّة على الصعيد الدولي.
المهم أن إستعادة "وثيقة" الأب دكاش في هذه اللحظة بالذات لا ترمي إلى التأكيد على أهميّة تحويل التنافس بين "الأميركيّة" و"اليسوعيّة" إلى تعاونٍ فحسب (والفضل في بناء المقاربة الجديدة يعود إلى الرئيسين دكاش وفضلو خوري في الجامعة الأميركيّة)؛ بل أيضاً إلى التأكيد على الدور الريادي الذي لعبته كل من هاتين الجامعتين في تاريخ لبنان الحديث، وهو الذي تعدّت تأثيراته الواقع المحلي لتصل إلى المنطقة العربيّة التي وفد الكثير من أبنائها للتعلم في هاتين المؤسستين لا سيّما الجامعة الأميركيّة في بيروت.
يقول الأب دكاش في الوثيقة: "إن النشاط الأكاديمي المتنوّع الذي قامت به الجامعتان في خضّم أيّأم النهضة الأولى وبعدها كان جواباً على السؤال الذي طرحه الأديب الكبير شكيب أرسلان في نهاية القرن التاسع عشر: لماذا تقدّم الغرب في حين أن البلاد الإسلاميّة بقيت متأخرة؟"(ص 32). ويضيف في مجال مماثل: "يمكن القول أن الجامعتين ساهمتا إلى حدٍ كبير، إلى جانب مؤسسّات تربويّة أخرى، في إرساء قواعد النهضة الأولى عبر التغييرات التي طرأت على اللغة العربيّة التي ظلت حتى مستهل الحركة الفكريّة لغة جامدة يصعب التعبير بها عن الفكر والحضارة" (ص 25).
لقد سلطت الوثيقة الضوء على عناوين هامة تتصل بالتقليد والحداثة وناقشت العلاقة بين القوميّة اللبنانيّة والقوميّة العربيّة التي كان من الممكن دائماً البحث عن مسارات إلتقاء بينها. فمن قال أن الإنتماء إلى الوطن اللبناني يمثّل بالضرورة نقيضاً إيديولوجيّاً أو فكريّاً مع الإنتماء العروبي الذي يعكس نفسه في العروبة الحضاريّة التعدديّة المنفتحة وليس في عروبة الأنظمة القمعيّة والتسلطيّة التي شوّهت مفهوم العروبة بغية تغطية مصادرتها للحريّات وزج شعوبها في زنزانات الديكتاتوريّة؟
لا شك أن ثمّة تزمتا قوميا لبنانيا يميل إلى شيء من الفوقيّة والعنصريّة عكس نفسه في سلوكيّات ومواقف جهات سياسيّة فاقمت الانقسام الداخلي ودفعت البلاد نحو الانفجار الكبير سنة 1975 الذي تغذّى بفعل تداخل مجموعة من العناصر الخارجيّة والداخليّة. ولكن، لا مفر من البحث عن مساحاتٍ مشتركة بين القوميّة اللبنانيّة والقومية العربيّة، فالتكامل بينها ممكن وليس مستحيلاً.
يقول الأب دكاش في الوثيقة: "واقع الحال أن الجامعة الأميركيّة إبّان الانتداب وبعده ولفترة غير وجيزة مثلت قطباً أكاديميّاً ثقافيّاً إيديولوجيّاً محصناً، حيث أن الطلاب كانوا يتوافدون إليها من مختلف المناطق العربيّة، في حين أن الجامعة اليسوعيّة تخصّصت في تكوين كوادر الدولة اللبنانيّة الناشئة ولمدة طويلة وما زالت حتى اليوم، وصارت مع الأيّام وحتى نهاية الحرب اللبنانيّة بين 1975 و1990 ترعرت فيها كوادر الأحزاب المسيحيّة ضمن صراع بينها". (ص 26). يا له من تكامل ناجح ولو لم يكن مقصوداً!
ثمّة نقطة بارزة أخرى يسلط الأب دكاش الضوء عليها في الوثيقة الهامة توضيحاً لما يُحكى عن دور الجامعة في المجتمع لا سيّما مع إعتبار البعض أن "دور الجامعة لا يتعدّى إعداد الكوادر الماهرة وإعطاءها الجواز بالشهادة التي تسمح لها بالدخول السهل إلى سوق العمل". (ص 30). إلا أنّه، عن حق، يوّسع هذه الرؤيا ليشرح أهميّة دور النظام التعليمي الجامعي في المجتمع والوطن، ويقول عن "الأميركيّة" و"اليسوعيّة": "إلا أن جامعتينا إختارتا أن تكونا مساحة حوار ونقاش وبناء شخصيّة المواطن القادر على العيش معاً مع الآخر بسلام والأمان مع إحترام الاختلاف الديني والعرقي والسياسي لكل أحد، وذلك يحدّد الأطر الصحيحة لممارسة المواطنيّة الصالحة. حتى أن منهجيّة التعليم تُشدّد على الفكر النقدي والشك المنهجي وعلى إستباط الجديد وتجاوز المألوف إلى جانب إستظهار المعطيات الثابتة التي على العقل أن يتكيّف في إستخدامها بحسب الظروف". (ص 30).
إن إستعادة مضمون هذه الوثيقة اليوم بالذات وتسليط الضوء على أهميّة مضامينها واستهدافاتها الفكريّة والثقافيّة والأكاديميّة والعلميّة، فضلاً عن إرتقائها في تكريس الشراكة بين مؤسستين جامعيتين عريقتين ساهمتا في صياغة دور لبنان وموقعه الثقافي المتقدم في المنطقة؛ إنما للتحذير من مغبة إستمرار الانحدار الذي يعيشه لبنان بشكل غير مسبوق. إن الرأسمال البشري والعلمي هو الرأسمال اللبناني الأول في الداخل وحول مختلف بقاع الأرض والتفريط به وبالمؤسسات التي شكلته هو تفريط بمستقبل الأجيال الصاعدة.
إذا قراءة وثيقة الأب سليم دكاش اليسوعي وتحليلها، والتأكيد على أهميّة دور الجامعتين الأميركيّة واليسوعيّة لا يلغي بطبيعة الحال دور الجامعة الوطنيّة الأم، الجامعة اللبنانيّة، التي هي صرح علمي كبير يجمع الطلاب اللبنانيين من مختلف المناطق والاتجاهات، ورغم التراجع النسبي لموقع الجامعة نتيجة الظروف العامة غير المؤاتية وغياب الاكتراث الرسمي لها، إلا أن شهادتها تبقى مرجعاً لحاملها في كل أنحاء العالم. وللحديث عن الجامعة اللبنانيّة صلة...