لو باستطاعة القلم ان يمحو غبار الأيام في الآفاق الحزينة! لو يعود الصّبية الى كرم الزيتون والعنب! سمعت أصواتهم داخلي وتنهدت بحرقة :"أيا ليت الطّفولة تعود يوما". ما أبأس أن يُحرم أطفال اليوم من طفولتهم البريئة حيث السعادة والطمأنينة تعمّ في الفصول الأربعة.
توجّهتُ كعادتي الى سطح بيتنا وبيدي اليمنى صينيّة القهوة وبيدي اليسرى جريدة. في قريتي, اعتدنا ان نعدّ ركوة القهوة قبل طلوع الضّو و أن نشربها على الرّيق. عندما شممتُ رائحة القهوة, عادت بي الذّاكرة الى ثنايا الملقى والغمرة والقبلة. كنّا ننده لأبي سمعان وام شفيق وفوّاز وصبحيّة وكلّ من مرّ بجانب بيتنا مرحّبٌ به: "ميّلو ع شفّة قهوة". يليه التّبصير بالقهوة. تقلب صبحيّة الفنجان حتّى يجفّ على جوانبه. ثمّ تبدأ بالتفسير :"شوفي ملّا سمكةّ! رزقة... ليكي هالحمامة البيضة... فرج" ومن كان يتصوّر ان فيروساً كهذا سيحرمنا من لمّة دافئة مع الأحباب الذين نستأنس بضحكاتهم. للحنين شوق مهاجر نحو الهضاب البعيدة. هناك, حيث السنونو التّائهة بين المنحدرين.
ذاك اليوم, لم أرشف قهوتي بلا رفاق أو جيران. أتت أسراب من البلابل مع أخبارها وفي صدورها ألف سؤال. ويبقى الهواء منحنياً أمام هيبة الصّمت. وشعاع الشّمس يطبطب عليّ عندما أشتاق لهم ولا أستطيع لمسهم بسبب فيروس لعين.
تصفّحتُ الجريدة بلا نفس. للجريدة مذاق غريب لا أشعر به عند قراءتي للصحف الإِلكترونية والمنصّات التي تنقل الأخبار على مواقع التّواصل الاجتماعي. تلك المنصّات الّتي - معظمها اذا صحّ القول – تفتقر الى مقوّمات الصّحافة الكلاسيكية من حيث المضمون. جيل الحاضر يفتقر الى التفتيش عن المصدر قبل نشر الخبر. وما يثير دهشتي أكثر هو أنّ مفهوم الصّحافي انحاز عن تعريفه مع ظهور مواقع التّواصل الاجتماعي. أصبح كلّ من ظهر "لايف" على الانستغرام ينعت نفسه بالصّحافي دون تقديم أي مادّة تستوفي شروط العمل الصّحافي. تناسى البعض أنّه علينا التّمكّن من الجزء النّظري قبل الإنتقال الى الجزء العملي من المسألة.
مخاوفي كثيرة. قلمي ينزف ويكاد يجفّ. وإن جفّت الكلمة، جفّ القلب.
مضى الوقت سريعا. كان الهدوء يسيطر على أحياء القرية. خرجت إلى البرندة لأخذ قيلولة. وضعت كاسيت لعايدة شلهوب في مسجّلة راديو قد ورثتها عن جدّي رحمه الله. وهذا اجمل ما ورثتُه عنه: ذكريات بريئة أسترجعها وسط الدّروب المشبّكة.
"لـــو فيّــي رجـــع مـــاضي
ايــــام اللـــــعب المنســيــّه
(...)
يـــمكن نـــحنا متــــل اللـــعـــبه
قصــــتنا عـــلى اســـم الغربـــه
كانــــــت مكتـــــوبــــه و مطـــويـــه
(...)
وكبرنا ورجعنا صغرنا
رجعنـــا القصــص المنســـيه"
إرتعشت قليلا. إشتقت لسهرات الطّرب و لأغاني الزّمن الجميل: سلوى القطريب, محمد جمال, عازار حبيب, مروان محفوظ, الاخطل الصغير, فيروز, صباح, سعاد هاشم, نصري شمس الدّين, وديع الصّافي... أحاول جاهدةً أن أفهم ما تغيّر مع مرور الأزمان : ماذا حلّ بالفنّ الاصيل؟
كانت شوارع قريتي فارغة من الأطفال. وجوههم تحمل ملامح الإرهاق. حتما هم غارقون في صفوف "الاونلاين" ليلا نهارا . وعادت أسراب البلابل والهدهد لزيارتي مجددا وبقيت أحدّق الى شوارع قريتي العتيقة وحقول القمح المنسيّة. ترى, ماذا سيقصّون على أبنائهم عن طفولتهم البائسة؟
كنّا ننتهي من دروسنا عصراً. ثمّ نستأذن الماما والبابا لكي نذهب الى بيت جدّي ونلعب الغميضة. هنا وهناك, كنا نخرطش أسماءنا على جدران منزل مهجور او بيت شعر لنزار قباني او ايليا ابي ماضي قد حفظناه من معلمة اللغة العربية. لم نكن نمتلك طبشور, فكنّا نفتّش على حجارة من "جنينة الجارة بلا ما حدن يشوفنا". تضاحكتُ فجأة وتذكّرتُ أننا كنا نذهب كذلك على البيسيكلات الى دكّان ابو سليم لنشتري ال"قازوزة" و"السّحبة" . كلّ هذا بألف ليرة.وكنّا نجمع ورود من حديقة خالتو التي كنا نحبها كالماما ونقدّمها لها. كثير من الذّكريات ما زالت آثارها ساهرة حتّى طلوع الشّمس.
انزلقت الدّموع على خدّي كمطر أصمّ. وقبل أن أودّع قريتي وأضّب حقائبي لأتوجّه الى العاصمة, تمرّد عليّ قلمي.
سجّل دمعة قلب مفنون
واخبلا عن دمعة مجنون
يبحث عن نوستالجيا الزّمن جميل
بين الأوراق العتيقة وبقاع الأرض العليل.