برز الحراك الجزائري كأحد الحركات الاجتماعية الأكثر مرونة ومثابرة في تاريخ الحركات الاجتماعية. ولعلّه الأكثر مرونة في الحركات التي اندلعت في العقد الأخير في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا.
انجازات الحراك الجزائري
اندلع الحراك الجزائري في 22 شباط 2019 رفضا لولاية خامسة لرئيس الجمهورية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة.
وقد تمكن المتظاهرون الجزائريون من تحقيق مطالب كثيرة، ففي 2 نيسان 2019 أصدرت الرئاسة الجزائرية بياناً أعلنت "استقالة" بوتفليقة رسمياً.
وخلال المظاهرات الشعبية المطالبة بـ"التغيير الجذري" ورحيل جميع رموز نظام بوتفليقة، طالب الجزائريون بمحاسبة رموز نظام بوتفليقة و"استرجاع الأموال المنهوبة" في عهده، معتبرين أنهم السبب وراء الوضع الذي وصلت إليه بلادهم.
ومنذ 31 أذار 2019، تحرك القضاء الجزائري المدني والعسكري لمتابعة كبار رموز نظام بوتفليقة من رجال أعمال وسياسيين ومسؤولين أمنيين ووزراء سابقين وسجنهم بتهم "الفساد والتآمر على سلطتي الدولة والجيش". وكانت البداية مع رجل الأعمال المثير للجدل والمقرب من عائلة بوتفليقة "علي حداد".
واللافت، أن أكثرية المسؤولين الذين حمل المتظاهرون الجزائريون صورهم تمت متابعتهم قضائياً ووضعوا في السجن المؤقت، أبرزهم شقيق الرئيس الجزائري السابق السعيد بوتفليقة ، ورئيسا الحكومة السابقان أحمد أبو يحيى وعبد المالك سلال، اضافة الى وزراء ووزيرات سابقين ورجال مخابرات.
استئناف الحراك بعد أشهر على تعليقه جراء كورونا
ومع انتشار فيروس كورونا، تم تعليق المظاهرات والمسيرات الشعبية. ولكن الحراك الجزائري عاد إلى الواجهة من جديد مع عودة المحتجين إلى الشوارع في تحد جديد للسلطة عشية ذكرى اندلاع الحراك في شباط 2021.
وفي حين تم انتخاب عبد المجيد تبون في كانون الأول (ديسمبر) 2019 رئيسا للجمهورية، ولكن لم يكن لهذا الانتخاب أي تأثير على الحراك: فأقل من 10% من الجزائريين شاركوا في الانتخابات الرئاسية التي ربحها تبون، وفق المعارضة، في حين يؤكد رئيس الدولة أنّ نسبة المشاركة بلغت 40 في المئة
الاستفتاء الدستوري الذي نُظم خلال الجائحة، والذي تمّ تصويره على أنه الحلّ، فقد عانى من انخفاض تاريخي في نسبة المشاركة، ما يظهر ثقل الحراك الذي دعا المواطنين وطالبهم بعدم الذهاب الى صناديق الاقتراع.
وعلى الرغم من التأثير الذي تسبب به وباء كورونا، والذي أدّى الى تعليق المسيرات، ظلّ البحث عن شرعية السلطة التنفيذية معطلاً ومعلقاً. كما تعرّض الإعلان الأخير عن إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة في 12 حزيران (يونيو) 2021 لانتقادات في الشوارع.
والى ذلك، لا تزال مطالب الجزائريين نفسها: "دولة مدنية لا عسكرية، استقلالية القضاء، حرية الصحافة، وتفكيك النظام ورحيل من يمثله".
لا هدنة مع القمع
يمكن تفسير صمود الحراك ومرونته قبل كل شيء من خلال موقف السلطات: نشأ تنافر وعدم انسجام واضح وبشكل متزايد بين الخطاب المهدئ والقمع المستمر. كما سعت السلطات خاصة إلى استغلال انتشار وباء كورونا لتجريم الحراك. علاوة على ذلك، تم اعتقال الكثير من المشاركين في الحراك من شخصيات معروفة اعلاميَا او أخرى عادية.
وإذا تمت الاستعانة بمصطلحات الفيلسوف والكاتب الفرنسي ميشيل فوكو فالوباء في الجزائر كشف عن نظام حكومي إداري شامل يراقب، هدفه نشر الانضباط والمعاقبة.
تولّد هذه الإدارة للشعوب من خلال المراقبة المستمرة والاعتقالات لدى المواطنين إحساساً بأنهم قادرون في أي وقت على حرمانهم من حريتهم، ما يبعث في داخلهم "الرقابة الذاتية".
ودرس فوكو حالات الأوبئة لتوضيح الطريقة التي تراقب بها السلطة الناس وتتحكّم بهم، فهي تتحكّم بالعقوبة وتجرّدها من طابعها الشخصي، وتتسلّل الى عقول الأشخاص حتى لا تعود السلطة بحاجة إلى استخدام القوة فتدفع بالأفراد إلى الانضباط الذاتي بدافع الخوف.
ولإخماد الحراك، عاد إلى الإنترنت في فترة الوباء، قفامت السلطات باعتقالات كثيرة طالت شخصيات إعلامية مواطنين بسبب نشر منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي.
وخلقت هذه الممارسات شعوراً وإدراكاً متزايداً لانعدام الأمن، الأمر الذي سبّب لدى البعض بنشوء تأثير "الرقابة الذاتية" المنشودة.
وقد عززت حالات السجن مزاعم الحراك وادعاءاته ومطالبه بدءًا من استهداف كل من الأشخاص العاديين والصحافيين المعروفين على غرار "خالد درارني" الذي أصبح رمزاً عالمياً لحرية الصحافة المنتهكة، وصولًا إلى رمي تهم كبيرة مثل الاعتداء على الوحدة الوطنية. عوحالياً، ووفقاً للجنة الوطنية للمعتقلين وموقع " Algerian detainees" الذين يعدّون بيانات موثوقة وينشرونها، لا يزال هناك 30 معتقلاً في السجن لمشاركتهم في الحراك.
وفي مواجهة النظام "الأصمّ"، يثابر الحراك ويستمر دائماً تحت مبدأ "السلمية" الذي يشكّل طريقة عمله، كما يثابر الجزائريون في تحقيق إنجاز اعتبره باحثون أميركيون من هارفارد و برينستون من أكثر الحركات مرونة في تاريخ العالم للحركات الاجتماعية.